المحلل الهاتفي!

03 يوليو 2018
+ الخط -
احتسى قهوته رشفة تلو أخرى بنشوة، وانطلق يسرد عليّ أحداث اليوم العالمية وتحليلاته السياسية لها وأبعادها الخطيرة، هذه الكلمة التي تلازم كلماته بوتيرة متتالية، فمن أخبار محلية يعرج على إشاعات عدّها حقائق ثابتة وانطلق لقضايا دولية بلا تسلسل بينها، وكلما واجهته بحقيقة ادعاءاته وزيف حقائقه، يستميحني عذراً لدقائق ويظهر لي الخبر أو التحليل المدعى عليه من هاتفه، أسميه محللاً، زادُه هاتفه الذكي، فإن حرمته من هاتفه لا شك ستنخفض تحليلاته وسيسترسل في قضاياه المعيشية وحوارات الحد الأدنى.

مؤكد أنني لست وحدي من يعاني من أمثال هذا المحلل الاستثنائي؛ سادة زماننا بهواتفهم الذكية، سلاحهم الفردي ومصدر أسرارهم وقوتهم النقاشية الحاسمة، قد يكون فردا من عائلتك أو صديقا أو مجرد فضولي شاءت الصدف أن تتقاسم وإياه فضاءً عمومياً، لكنني أجزم أننا نعاني منهم في كافة أقطارنا العربية البعيدة، لكأنّهم جنس مستنسخ موزع بعدالة على رقعتها.


عملياً، لا يكفي أن تناقش أو تستمتع لتحليلاته، أنت مُطالب بذلك، وإن كان ما يستعرضه هنا وهناك يمكن إقحامه في خانة التحليل، وهو منه براء، فالتلاعب بالاستعارات لا يجعلك شاعراً، كما أن التلاعب بالأموال، خاصة العامة، لا يجعلك مستثمرا، فالتلاعب بالكلمات والمفاهيم أيضا لا يرقيك محللاً.

سيستدرجك للاستماع إليه وسيُلح عليك لمشاركته النقاش، وستسقط في حبال خطابه لتضطر إلى محاورته، وسيفرض عليك التأكد من صدقية تحليله، أي كُلّ كلامه وصوره المؤرشفة بهاتفه، وكل خطوة اعتراض على دلائله ستُصنّفك في خانة المنهزمين الجاهلين وفي أحسن الأحوال المغضوب عليهم. من موقعي، غالبا ما أستسلم وأغادر بسرعة بلا وداع، أو أكافح مضطرا للاستماع لجدله الزائف إلى نهاية بطارية هاتفه.

يستند تحليل هذا الواقع إلى مؤشرات كثيرة رسمت معالم هذا المحلل؛ إنه ثمرة سنوات سابقة، كانت البداية برسالة تختم بعبارة "انشرها ولك الأجر" يعود إليها الفضل في النشأة الأولى لهذه النماذج وتطورها، وللعجب أنها حملة مستمرة رغم كل المتغيرات الدولية والتقنية والإعلامية -كانت البداية بـ "المسنجر" ثم انتقلت إلى الإيميل ففيسبوك فبقية وسائل التواصل الاجتماعي حتى موقع الجمال انستغرام، تتحرك هنالك بخطى ثابتة داخل أسواره - إنها جملة تجبر المتلقي على الإيمان بصدقية الرسالة وتعطيل كل ملاكات التفكير والانتقاد، بل بإلزامية نشرها، وإلا فمصيره محتوم تخطه بقية كلمات الرسالة.

والواقع أن هذه الرسالة لا تكفي لتُشكل لك سيرة هذا المحلل الهاتفي العجيب، لقد كانت القنوات التلفزيونية الإخبارية، بتقاريرها وبرامجها، تحصد الرؤوس لتشكل وعياً جماعياً وفق تمذهباتها، وكان بعض ضيوفها يحسنون تزيبن كلماتهم كما أناقتهم وتعلو محياهم ابتسامات، برهاناً على اللقب الذي يُسطّر تحت أسمائهم بكلمة "محلل"، وليت أغلبهم كان كذلك، وتلحق بها كلمة (استراتيجي، أمني، إداري، اقتصادي.. إلخ). وكانت تلك الألقاب تُغري هؤلاء القوم وغيرهم، فاكتسحوا كل المحطات كما الإذاعات، وها هو آخر جيل منهم يلتحق بالمقاهي فيصبحون سادتها اليوم.

ولتكتمل الصورة، شكّل امتلاك كل فرد للهاتف وقدرته على المشاركة في كل وسائل التواصل الاجتماعي بسهولة آخر فصول نشأته السريعة؛ لتنطلق هذه المخلوقات العجيبة مُكسّرة ما تبقى من عقلانية وإيمان بالتغيير ووعي بإشكالات المستقبل الحقيقية وبالتحليل الدقيق.

لا شك في أننا قد نتعاطف مع هذا المحلل، مع مراعاة طرق التفكير المختلفة، وأغلب الظن أنه يكون إنساناً طيباً وودوداً وغالباً ثرثاراً، وقد يُحاجج بعضهم بأن في الظاهرة ما يؤشر إلى حيوية المجتمع ووعي جماعي بالتحديات، لو كانت وفق أسس معقولة، غير أنها، للأسف، لا تغذو استمرارية لوعي مزيف شكلته الأنظمة السلطوية واحتضنته المجتمعات. لتشكل الظاهرة إطاراً لفوضوية الخطاب الممارس ببلداننا، ولغياب دور محوري للمثقف، وبرهاناً على طُغيان خطابات المحللين بدون ضوابط إعلامية، وأخيراً، مؤشراً إلى تنامي سلطوية الصوت والصورة بمجتمعات مؤشرات الأمية. ووفق هذه المعطيات، يجوز معه وصفهم كضحايا لهواتفهم الذكية وأحلامهم التحليلية ومرض الاستسهال الذي انتعش في مجتمعاتنا بعنوان "في عشرة أيام" وتلك حكاية أخرى.

كما سبق، أنتجت ثورة الاتصالات صحافة المواطن؛ اذ يمكن للمواطن أن يكون شاهداً على أحداث وتحولات مصيرية ينقلها بهاتفه لرحاب العالمية محرراً وموزعاً ومحللاً، لكنني أجزم بأن محلل الهاتف يعي هذا الواقع، كما أنه لا يشكل بالضرورة امتداداً لهذا المسار، ولكن هل يمثل هذا المحلل ذلك الصنف؟ وقبل ذلك، هل وصلنا إلى درجة المواطن؟ لأن ما يروج بعالمنا العربي فصل من حكاية أخرى.
45911426-8D4D-4547-A5FC-3899EAF231AC
أحمد صلحي

باحث حاصل على شهادة الدكتوراة في العلوم السياسية

مدونات أخرى