"إنت إيه"...؟
هذه الأيام عاد بعد غياب طويل نسبيا، انشغل بمشاريعه في باريس، أرفق هذه العودة باستعراض لعضلاته من سيارته الجديدة وتلويحه ببطاقة فيزيت في وجوه مستقبليه، ليظهر كمن يلعب دوراً يصعب عليه إتقانه، أضحك في سري فأقول "عقلية الكومبارس" لم تفارقه!
تذكرت آخر أيامه قبل الوداع لأول مرة صوب طنجة قبل حوالي عشر سنوات، كانت هواجس كثيرة تحوم بذهنه قبل المغادرة صوب ما وراء الأطلسي، لقد كانت الفكرة تؤرقه؛ بمبرر عائلته التي سيتركها ومنطلق صعوبة الاندماج في بلد المهجر، غير أن عوامل أخرى تغريه.
وفي مكالمات مطولة بعد وصوله، كلها استفسارات وحنين وأشواق إلى البلد، وتعجب واستغراب من مقدار الاختلافات بيننا وبين الأوروبيين، كان همه الأساسي في بداية كل مكالمة الاستفسار عن حجم التحولات بالبلد وعهدي به أن يسأل عن المواليد ويعلم بكل الوفيات، وقد لقبته سرا سيارة الإسعاف، إذ إن أخبار الوفيات تنقل إليه، فيوزعها في مكالمات عاجلة على أفراد العائلة.
(م.ب) من مواليد برج العذراء، وإن كنت ثقافتي بالأبراج قليلة، فقد وجدت خصائص لمواليده، إذ يعتبرون متوترين وقلقين، وسفسطائيين بالفطرة، ويميلون إلى التمسك بالعادات والتقاليد وكثيري النقد، قد لا تنطبق كل هذه الصفات على مواليد البرج، إلا أنها تقدم صورة عامة عنه وتنطبق عليه، فكما تفسر كل تصرفاته أجزم بأنها تلخص إصراره على إتقان دور الكومبارس.
في كل صيف، تسبقه أخبار رحلة عودته، أما هو فيتصنّع مفاجأتنا، لمحته بداية الصيف قادماً، هيئته لم تتغير، طول قامته لم يكسره سنوات الغربة، وإن تغيرت ملامح وجهه قليلا، أما ملابسه فكما هي شأنها شأن عادته ومشيته، يقترب ببطء، وللمفاجأة، حتى كلماته وابتسامته المتقطعة لم تتغيّر، كما نصائحه ومواعظه الدينية، التي ترتبط بتلك السنوات التي قضاها بكتاب بلدته في طفولته، قبل هروبه من استكمال حفظه للقرآن بحثاً عن فرصة عمل في إحدى المدن. تلك الهواجس والتخوفات السابقة تبخرت، فها هو اليوم قد تغيّر بشهادة الجميع، كبيرهم كما الصغار، فغروره زاد عن حده، وانتقاداته لكل صغيرة وكبيرة في بلده ومجتمعه صارت هاجسه الوحيد، وامتحاناته اللغوية تضاعفت، وسخريته السمجة تعمقت.
كنا نسلك طريقاً مختصرة لأقرب مقهى، وكانت أحاديثه القديمة الجديدة تتوالى وتساؤلاته تتكاثر عن أخبار العائلة، مستفسراً عن كل صغيرة وكبيرة. وفي المقهى، التحق بنا صديق مشترك، والأسئلة تتواصل، وكي أقطع ماكينة الأسئلة، انتقلت للسؤال عن الأوضاع بفرنسا وبأوروبا بعد وصول ماكرون للحكم ومعاداة المهاجرين بعد النقاش الأوروبي حول الهجرة بالمتوسطي وصعود اليمين المتطرف، واستمر النقاش المتبادل على عموميته.
وعن أحواله، يؤكد لنا أن وضعيته تحسنت، فقد طوّر مشروعا تجاريا مع بعض رفاقه، وسيؤهله ذلك لإمكانية إرسال تأشيرة الهجرة بضمانته، وهي النقطة التي استغلها مُقدماً وعوداً بالتسفير لبعض أفراد عائلته. وتجاذبنا أطراف الحديث حوال طبيعة مشروعه وتقدمه، وانطلق يُعدد مزايا العمل والأجر المرتفع والنظام والعمل الجاد والمتقن.. ليختتم كلامه بما لا يدع مجالا للشك بجملة اعتراضية ما أزال مندهشا من توقيتها ومغزاها، فحواها أن الاستقرار بأرض الوطن فرصة يحسدنا عليها، ونعمة لا تقدر بثمن، وكنصيحة مجانية يؤكد لنا أن الاستثمار والبقاء ببلدنا أفضل، لأن أوروبا لم تعد كما كانت، ربما بالنسبة لنا، إذ في معرضه حديثه، يفصح لنا عن نيته إلحاق عائلته به، وأسفه لقصر عطلته الصيفية!
وأنا أستمع لحججه ودفاعه، كنت أقف عاجزا عن فهم عقلية هذا المهاجر العائد، إذ تتغير نبرات كلامه كلما فاتحناه في موضوع الالتحاق به ونية الهجرة، وتتواتر في ألسنة كل العائدين مع استثناءات قليلة سمفونية واحدة محورها تخويف من الهجرة، وتفسيري الوحيد لهذه الكلمات أنها ربما ترتبط بتخوفات من الارتقاء المادي والمنافسة ببلد الهجرة، أو بتخوف من كشف حقيقتهم ببلدان الغربة وحقيقة حياتهم هناك.
كانت آخر الأسئلة من صديقنا المشترك عن باريس الثقافية والسياسية، وكنت متيقنا أنه لا يملك أجوبة لها، فكيف سيحدثه عن مدينة يسكنها جسدا لا روحا، وعن مجتمع لم يندمج في منظومته، وعن ثقافة وسياسة لا يعيها ولا يصدقها. فكل أيامه تختزل في العمل ومشاكله، وفضاءات عربية داخل العمل وسط محيط مغاربي بلغة عربية. وكما توقعت، فقد تراوحت أجوبته بين كليشيهات متناقلة عن الحياة الباريسية وبين ما ينقله الإعلام عنها أو ما نعرفه عنها. فبين رؤيته المتحفظة والمحتفظة بأحاديث لا طائل من ورائها، ومن حيث لا يدري فهذا الغزل لباريس يجعله يبدو بمظهر الغبي، إنه يتجاهل أن التكنولوجيا قربت الكثير، حتى غدونا نعرف عنها أكثر مما يعرف، كما أن وسائل التواصل تنقل العالم بين أيدينا.
نتحرك عائدين إلى منازلنا، سيستعرض صديقنا إحدى أوراقه، سيتكفل بدفع فاتورة جرعات القهوة التي احتسيناها، تم سيعقب بورقة تليها إذ سيعرض توصيلة مجانية بسيارته التي تحمل ترقيماً فرنسياً، من المؤكد أنه اختار هذه السيارة بانتقائية شديدة لاستعراض عضلاته.
أعتقد وأتمنى أن أكون مخطئاً أن شخصية العائد شخصية مركبة يصعب استيعابها؛ فأفكاره مزيج من الانبهار بالثقافة الغربية ضد ثقافة بلده، لكنه ما يلبث أن يحكم على الأولى بالخراب، مستحضراً ثقافة بلده، ومن جهة ثانية، يتحرك بمشروعية الأخلاق والنصائح والكلام الموزون، التي وصفها أحدهم بأنها بمثابة "صكوك غفران" يوزعها يمنة ويسرة. وأخيرا، محظوظ من يُوفق في امتحانه اللغوي، عن مسميات الأشياء المستعصية بالفرنسية (شجرة أركان، الرحى، الفروسية ...)، هذا الامتحان يؤهله ليتباهى بلغته الفرنسية، وإن كان لا يحسن نطق كلماتها وصياغة جملة سليمة بها، هذا الامتحان اللغوي جاء ليعوض امتحاناته السابقة قبل هجرته للأطفال باستعراض سورة الكافرون.
وأنا مستغرق في تأمل حكايته، استحضرت حكاية جدي التي تلخص حصيلة المسارات النهائية للعائدين ومكاسبهم من المهجر، وتصنف الحكاية العائدين لثلاثة أصناف: عاد الجيل الأول وفي جعبته العملة الصعبة فانطلق بمشاريع واستثمارات ببلده، أما الجيل الثاني، فكان حظه أقل بكثير، ويعود بسيارات محملة بملابس وأوانٍ وتقنيات إلكترونية ...، أما الجيل الثالث، فانخفضت رساميله، وكل ما كسبه في رحلة عودته؛ العادات والتقاليد الأوروبية، حكاية ظلت عالقة بذهني، قالها جدي مند سنوات وودع هذه الحياة، ولم يُكتب له أن يعايش الجيل الرابع، فحصيلته هزيلة لا تتعدى كلامه عن الأمجاد وحكاية أوروبا الدولة والمجتمع، ولوم كثير لبلده. صديقنا يصنف في الجيل الأخير، فلا ريب أن تختزل عائداته في كلمات وأمجاد وحكايات أوروبا ولوم كثير لأبناء بلاده.
أتسأل مستغربا، هل هي نقمة أم نعمة تلك العادات التي ينقلها صديقنا من بلد المهجر، سيارته الفخمة مقابل سفرياته القليلة، لباسه الأوروبي مقبل سذاجته في تنسيقها، هداياه المنتقاة شوكولاته وفستق وقارورة عطر الريفدور الباريسية التي لا تُودّع منازلنا لسنوات، تُمنح هدية من العائد وتهمل في زاوية ببساطة لتُلحق بها قارورة أخرى في السنة المقبلة، ببساطة لأن لا أحد يستعملها، وما سر نقمة العائد من حياته السابقة ومسيرته قبل الهجرة، واستغرابه لمسيرة بلدته وأهلها، وعن وعي هذا المهاجر بالتخريب الذي يقوم به بتحطيمه لأحلام الأطفال والشباب بسخريته واستهزائه بتعليمهم ومستواهم ومستقبلهم.
لست في معرض التعميم، إذ ثمة نماذج أخرى من المهاجرين العائدين، نفتخر بهجرتهم كما بعودتهم، أما صديقنا، فيتخبط في محاولاته لإتقان دوره، وبينما هو يؤدي آخر حركاته، نسمع صوتاً شديداً يصدح من مذياع سيارته؛ إنت إيه...؟، سؤال المطربة يلخص كل الحكاية.