الثرثرة محرك البشرية!

02 ديسمبر 2018
+ الخط -
تتقاطع مع عشرات الوجوه وتتشارك وإياهم فضاءاتك، وقد يحدث أن تتقاسم معهم حوارات ونقاشات متحدثا أو مستمعا، وأصعبها أن تتورط كمستمع لثرثار يسترسل في الحديث اللامتناهي ويقاطعك ليكمل حديثه وتتوالى حكاياته ولا تنتهي، ويُسارع لتوضيح كلماته ناسجا حكاية أخرى، وينغمس في ثرثرته (...) وأنت أسير بين كلماته، ولو كنت صامتا ستُعاني من هذه العادة.

الثرثرة كمفردة تُحيل على انفلات كلامي بلا ضوابط، وعبء نفسي وعادة سيئة ووصمة مذمومة، لكنها تتمدد كفعل إنساني أصيل. ففي الواقع أنت مُحاصر بجيش من الثرثارين؛ تغادر منزلك بوسائل النقل العمومية فتصادف أن تتقاطع رحلتك مع ثرثار، قد يكون سائقا أو راكبا أو زميلا (...)، المهم بين رحلة الذهاب والإياب ستكون ضيفا على الثرثرة شئت أم أبيت، وتستمر ملازمة لكل تحركاتك، إن لم تجدها تنتظرك ببيتك. هذه الوقائع كلها تؤكد أهمية الثرثرة، إنها فعل مستمر يستثمر في الكلمات موجزا لرؤى أخرى للآخرين، وأحيانا قد تغدو مفسدة اللحظات الجميلة.


وكي يكتمل المشهد، تبدو الثرثرة ملازمة لخصوصية أنها ملازمة لكل الأمكنة وحاضرة في حياتنا اليومية بقوة، وقد تكون أمرا جيدا مرغوبا فيه، فبعض المجالس تحن فيها الأنفس لثرثار مسترسل، شخصيا، أعتقد أن متعة السفر لا تُستكمل إلا بحضور الثرثرة، كما جلسات أخرى قد يُستحب أن تكون الثرثرة حاضرة فيها كالمقاهي، فلكل مقهى شلّة تثرثر على جنباتها مناقشين كل المواضيع.

وبصيغة اختزالية، تُتداول سردية توحي بأنها مسألة نسوية، إذ في ذهنية أصحاب "العقلية الذكورية" الثرثرة فعل نسائي خالص، غير أن ذلك مجرد افتراء، فلا فرق في الثرثرة بين الذكور والنساء، إنها فعل إنساني متجدد.

وعلى المسار نفسه، إن دينامية الثرثرة داخل المجتمعات توحي بأن لها علامات مختلفة، تغذيها القواسم المشتركة بين أفرادها، ورغم تباين سلوكيات المجتمعات تتطور الثرثرة هنا وهناك ممتدة في كل المجتمعات كفعل إنساني. غير أنه يخطئ من يعتقد أن الثرثارين نوع واحد، إنهم أصناف متباينة، كما الثرثرة أنواع مختلفة؛ بعضهم تصغي لكلماته مرغما، وآخرون تتمرد على ثرثرتهم متجاهلا كلامهم، والبعض تتشوق لأحاديثهم.

وإنصافا لبعض الثرثارين، فقد تشكل ثرثرتهم حياتك الثقافية والعلمية، إذ يصدف أن تتقاطع حياتك مع ثرثار يكرمك بأجمل العبارات ويوجز في الفوائد والمواعظ والحكايات، لتكتشف بحضرته عوالم مجهولة.

وخلافا لكل لما سبق، قد لا تصدق أن بعض الثرثرة أغلى من مثيلاتها، فأنت تشاهد خبيرا يبسط ثرثرته على قناة تلفزيونية بلا حسيب ولا رقيب بكل ثقة، وقد تقرأ آراء لشخصية كلها ثرثرة على الفاضي، شأنها شأن كلمات المهرجانات السياسية (...)، تستطيع أن تعتبرها أغلى الثرثرات العلنية.

ويفترض أن نصنف الثرثرة العلنية الظاهرة على خلافها، فبالتوازي، ثمة ثرثرة سرية؛ ففي ثنايا الخفاء تتناقل الألسن خلاصات وآراء وثرثرة الصالونات السياسية وتسرب لوسائل الإعلام مخلخلة المنظومة السياسية القائمة مؤسسة لواقع سياسي جديد.

بالمحصلة، تتشعب دروب الثرثرة وتتقاطع اتجاهاتها، وتستمر حكايات الثرثارين باستمرارية الجنس البشري، إنها محرك البشرية، فهي الملازمة للتاريخ البشري لتظل حاضرة ولا تتوقف تدفقاتها، وحده النوم من يؤجلها إلى ميعاد آخر.

يومكم سعيد بلا ثرثرة.
دلالات
45911426-8D4D-4547-A5FC-3899EAF231AC
أحمد صلحي

باحث حاصل على شهادة الدكتوراة في العلوم السياسية

مدونات أخرى