المحكمة الدستوريّة العليا: ساحة المواجهة التركية المقبلة

17 ديسمبر 2014
عداء قديم بين "العدالة والتنمية" والمحكمة الدستوريّة العليا(فرانس برس)
+ الخط -
يعود التوتّر المعهود إلى المشهد السياسي التركي، مرة جديدة، مع اقتراب موعد الانتخابات البرلمانيّة المقرّر انعقادها في شهر يونيو/حزيران المقبل. ويتركّز التوتّر، كما في الانتخابات السابقة، على محاور عدّة، أوّلها عمليّة السلام مع "العمال الكردستاني"، بعد تهديد اتّحاد المجتمعات الكردستانيّة، الذي يُعدّ المظلّة التي تعمل تحتها جميع التنظيمات التابعة لـ"العمال الكردستاني"، بكشف تفاصيل عملية السلام والعودة إلى السلاح، في حال لم تستجب له الحكومة، بإجراء تعديلات دستوريّة تفضي إلى توقيع اتفاق نهائي قبل الانتخابات المقبلة.

ويفاقم قيام السلطات التركية بحملة اعتقالات طالت مقرّبين من "حركة الخدمة"، بقيادة الداعية الإسلامي فتح الله غولن، من توتر المشهد التركي، وخصوصاً أنّ الاعتقالات شملت عدداً من الصحافيين، بينهم رئيس تحرير جريدة "زمان"، أكرم دومانلي، ومدير قناة "سمان يولو" التلفزيونية، هدايات كراجا وعدد من الكتّاب والمخرجين. وأثارت الحملة موجة من الانتقادات المحليّة والدوليّة، صدر أبرزها عن الاتحاد الأوروبي، ما استدعى رداً قاسياً من الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، الذي اعتبر أنّه "لا يمكن للاتحاد الأوروبي أن يتدخّل بما تمّ اتخاذه من خطوات، في إطار القانون ضدّ العناصر التي تهدّد أمننا القومي".
ويوضح أردوغان، في معرض ردّه على الاتحاد الأوروبي، أنّه "عندما نتخذ خطوات مماثلة، فإننا لا نهتم لما قد يقوله الاتحاد الأوروربي، أو إن كان راضياً عنها"، مخاطباً الأخير بالقول: "من فضلكم دعوا نصائحكم لأنفسكم".

وتزيد هذه الأحداث من حدّة التوتّر الذي قد يبلغ ذروته مع شبح معركة يلوح بين الحكومة التركيّة والمحكمة الدستورية العليا، التي تنظر في دعوى رفعتها المعارضة ضدّ قانون الحد الأدنى من الأصوات المتمثل بـ10 في المائة، والذي يفرض على أي حزب سياسي الحصول عليها، لدخول البرلمان، بحجّة أنّ القانون غير دستوري.
وكان حزب "العدالة والتنمية"، قد وعد في وقت سابق، بخفض هذه النسبة، حال وصوله إلى الحكم، معتبراً إياها "غير عادلة"، لكنّه سرعان ما تراجع عن هذه الوعود، بذريعة أنّ هذه النسبة مهمة "للحفاظ على الاستقرار". ولم يتردّد عدد من مسؤولي "العدالة والتنمية" في اعتبار الدعوى المرفوعة أمام المحكمة الدستورية، بأنّها "محاولة لضرب الإرادة الوطنيّة".

وعلى الرغم من أن خفض نسبة الأصوات لن يؤثّر على حصول "العدالة والتنمية" على أغلبية المقاعد البرلمانيّة، فإن من شأن هذه الخطوة، بحسب محللين، أن ترفع عدد مقاعد أحزاب الحركة القوميّة الكرديّة، وتلك الإسلاميّة التي تختلف مع "العدالة والتنمية"، لا بل تناصبه العداء، على غرار "حزب السعادة" وحزب "الوحدة الكبرى". وقد يسهم تحالف هذه الأحزاب مع المعارضة التركيّة التقليديّة، في تعقيد مهمّة الحزب الحاكم، الذي يسعى إلى الحصول على أكثر من ثلثي مقاعد البرلمان، ليتمكّن من إجراء التعديلات الدستوريّة التي تلائمه، بعد فشل مشروع الدستور الجديد، نتيجة الخلافات الشديدة مع أحزاب المعارضة الرئيسيّة حول عدد من المواضيع، من بينها التحوّل إلى النظام الرئاسي.

وتمكن حزب "العدالة والتنمية"، خلال 12 عاماً في السلطة، من السيطرة على العديد من مفاصل الدولة التركية، وكان آخرها المجلس الأعلى للقضاة والمدعين العامين، إثر فوز ساحق حقّقته الكتلة التابعة له في الانتخابات الأخيرة، في شهر نوفمبر/تشرين الثاني الماضي. ولا تزال المحكمة الدستورية العليا آخر القلاع الخارجة عن سيطرته.
وطوال العام الماضي، أغضبت المحكمة أردوغان وحزب "العدالة والتنمية"، من خلال سلسلة من الأحكام التي اتخذتها، على غرار رفع الحظر عن موقع تويتر في شهر أبريل/نيسان الماضي، وعن موقع يوتيوب في شهر مايو/أيار الماضي، باعتبار حظرها انتهاكاً لحرية التعبير. كما ألغت المحكمة في شهر أبريل/نيسان الماضي، أجزاءً من القانون المثير للجدل، والذي أعطى وزير العدل سلطات واسعة على المجلس الأعلى للقضاة والمدعين العامين. ويمكن للمحكمة اليوم أن تقضي لصالح خفض نسبة الأصوات في الانتخابات على أساس الديمقراطية.

في المقابل، يبدو تاريخ المحكمة مليئاً بمخالفات حقوق الإنسان، قبل إعادة هيكلتها، بعد استفتاء أجراه حزب "العدالة والتنمية" على عدد من التشريعات عام 2010. ولطالما حظرت المحكمة، بشكل روتيني، الأحزاب الكرديّة والإسلاميّة بحجّة الحفاظ على الطابع القومي والعلماني للدولة. وفي عام 2008، كانت المحكمة على وشك حلّ حزب "العدالة والتنمية" ومنع قادته من ممارسة السياسة، وأبطلت القانون الذي مرّ بأغلبية ثلثي مقاعد البرلمان، ويسمح للمحجّبات بارتداء الحجاب في الجامعات، ومن ثم حاولت منع انتخاب رئيس الجمهورية السابق عبد الله غول.
وتُظهر مراجعة كيفيّة نشأة المحكمة، أسباب عداء أنصار "العدالة والتنمية" لها بشكل أعمق، إذ تأسّست بعد الانقلاب العسكري الأول الذي جرى عام 1960 على رئيس الوزراء المنتخب حينها، وزعيم الحزب الديمقراطي عدنان مندريس، والذي يعتبره أردوغان مثله الأعلى. وجرت حينها كتابة دستور جديد سمح بإنشاء مجلس أمن قومي، مكوّن من ضبّاط الجيش، وخوّل الجيش أن يصبح لاعباً رئيسياً في السياسة الداخليّة التركيّة.

وما يزيد العلاقة سوءاً، هو أنّ رئيس المحكمة الحالي، هاشم كيليج، كان من أكثر المعارضين لرفع الحظر عن ارتداء الحجاب وإغلاق القضيّة التي كانت موجّهة لحلّ حزب "العدالة والتنمية" عام 2008.