المجلات الثقافية العربية... إلى أين؟

10 ابريل 2016
أعرق المجلات التي تواصل مسيرتها منذ الخمسينات (Getty)
+ الخط -
قامت المجلات الثقافية العربية الرصينة، في شتّى صورها الورقية والإلكترونية، وتقوم بدور كبير على غير صعيد في حياتنا الثقافية، ولعلّ دورها الأبرز يتجسّد في المادة الثقافية التي تقدّمها، إن كان على مستوى النصوص الإبداعية، أو على مستوى المادة النقدية، أو حتّى المادة الإخبارية والمتابعات الصحافية. لذا، فعند الحديث عن المجلة، أيّ مجلة، بوصفها منبرا أو وعاء ثقافيا، يكون السؤال عن هويّة هذه المجلة أو تلك، وما الذي يجعلها تمتاز عن غيرها، شكلا ومضمونا؟ ولعلّ هذه الوقفة العاجلة مع المجلات الأشهر، تضعنا على طريق محتشد بالأسئلة ومحاولة التعرف على عالم غير معلوم بالقدر الكافي.

لعلّ الصدفة وحدها شاءت أن تتزامن كتابة هذه المقالة مع قرار إغلاق واحدة من أهم المؤسسات الثقافية في الخليج العربي، وربما في العالم العربي أيضا، أعني مؤسسة الصدى بما يصدر عنها من مجلات، أهمّها مجلة "دبي الثقافية" ذات الحضور العربي الواسع، وكانت قد انطلقت في عام 2004، وبدأت منذ العدد (41) بإصدار كتاب شهري، ثم كتابين، يوزعان مجاناً مع المجلة.. وبصرف النظر عن المبررات وراء هذا التوقّف، وهو غالبا يقع ضمن خانة الأحوال المادية، فهو قرار يحكم بالإعدام على مكوِّن من مكوّنات الحياة الثقافية العربية، ويحيل إلى طبيعة وأهمية العمل الثقافي في عالمنا العربي، والتساؤل عن "أولوية" هذا العمل بين أولويات كثيرة.

أسوق هذا المثال، ولا أنسى الكثير من المجلات الثقافية العربية التي توقّفت للسبب ذاته، الماديّ، ومثال مجلة الآداب قريب في الذاكرة، فبعد مسيرة عشرات السنوات، اضطر أصحاب المجلة للتوقف عن إصدار النسخة الورقية منها. وهذا مثال من أمثلة كثيرة على مجلات توقفت، أو تراجع حضورها ومستواها. فماذا عن المجلات التي تستمر في الصدور والحضور؟ وما الذي يجعل هذه تتوقف، وتلك تستمر، بل تتطور؟ ماذا عن مجلة "العربي" مثلا التي تواصل مسيرتها منذ خمسينات القرن العشرين، شهريّا، وبقيادات كبار القامات الثقافية العربية، ثمّ فجأة نسمع عن قرار تحويلها إلى "فصلية"؟ والآن تظهر الكثير من المجلات التي نشأت وترعرعت في ربع القرن الأخير، وتستمر ناجحة في الانتشار، مثل مجلّة "نِزوى" العُمانية بحضورها العربي الواسع والعميق، حضور يتجسّد في استقطاب الأقلام والأفكار على نحو متزايد؟!

ولعلّ المتابع لهذه المجلات، طوال نصف قرن أو أكثر، يلمس مدى التشابه والتقارب بين أهدافها ومكوّناتها. ومن ينظر في تبويب إحداها، سيجد التبويب نفسه، وربّما الأبواب الثابتة نفسها، لكن قد يختلف مسمّى الباب أو عنوانه اختلافا هيّنا وبسيطا. افتح مجلة العربي، مثلا، وستجد "حديث الشهر"، "فكر"، "قضايا عامّة"، "ملفّ"، "أدب ونقد ولغة"، "علوم"، "وجها لوجه"، "فنون"..الخ، ولعلّك تقع على ما يشبهها أو يلتقي معها في معظم المجلات، إن لم يكن فيها كلها.

وبينما يغلب طابع المنوعات لدى بعض المجلات، تختلف "نزوى" وتتميز لجهة التركيز أكثر على الدراسات النقدية الأدبية والفكرية والفنية المطوّلة والرصينة، لكنها لا تختلف كثيرا من حيث عناوين أبوابها، فهي تشتمل على أبوب "دراسات"، الملفّ"، "مسرح"، "حوارات"، "شعر"، "سينما"، "متابعات ورؤى"، "نصوص"، "كتابات" و"محور". ما يعني أننا حيال الهموم والقضايا نفسها التي تشغل المشتغلين في هذا الحقل الثقافي الحيويّ.

عن القافلة
للدخول في هذا العالم بعمق أكبر، وبأكبر قدر من الموضوعية والصدقيّة، اخترنا الوقوف مع واحدة من أعرق المجلات التي تواصل مسيرتها منذ الخمسينات أيضا، وبنجاح وثقة كبيرين، كونها تتطور وتلاحق التطورات الفنية والمهنية بروح قادرة على مواكبة كل جديد، أعني مجلة "القافلة" في عامها الثالث والستين، المجلة التي صدر عددها الأول في أكتوبر/ تشرين الأول عام 1953، واستمرت في الصدور شهريّا في بدايتها، وبلا توقّف، باستثناء توقّف دام خمسة شهور (من أبريل/ نيسان إلى أغسطس/ آب 2002)، وجرى خلال هذه الفترة تنفيذ دراسة شاملة لتطويرها، على صعيد تحرير وتصميم "القافلة" إلى مؤسسة متخصصة في النشر هي وكالة "المحترف" السعودي. كما شهدت تحوّلات عدة، على مستوى الانتقال من الأبيض والأسود إلى الألوان، ومن كونها شهرية إلى صدورها كل شهرين، وحتى بخصوص اسمها الذي كان "قافلة الزيت" قبل اعتماد الاسم الحاليّ "القافلة".

نقف مع الأعداد الأولى من هذه المجلة، التي تصدر- حاليّا- كل شهرين، عن شركة الزيت العربية السعودية (أرامكو السعودية) لموظفيها العرب، وتوزّع مجّانا، وكذلك مع العددين الأخيرين منها، ورقيّا والكترونيّا، لنقيس ما يمكن تسميته "المسافة الثقافية" التي قطعتها المجلة خلال مسيرة ثلاثة وستين عاما، ونبدأ من "النهج" الذي حكم هذه المسيرة، فهي ظلت "تعنى بنشر الموضوعات الأدبية والعلمية والثقافية والصناعية الرامية إلى تثقيف القراء في هذه المجالات". ومن نهجها "الابتعاد عن المواضيع السياسية، وعن كل ما هو مثير لخلاف أو جدل دينيّ أو مذهبي أو طائفي".

على مستوى الأرقام الدالّة إلى المسار المتطور للمجلة، نجد أنها من حيث التوزيع، يُطبع منها كل شهرين خمسة وستون (65 ألف) نسخة.. توزع على قرائها داخل شركة أرامكو السعودية، وداخل المملكة وخارجها. وفي إحصائية أجرتها القافلة عام 1419هـ/ 1999م، تبين أن معدّل الأشخاص الذين يشتركون في قراءة النسخة الواحدة من كل عدد، داخل المملكة وخارجها، هو سبعة (7) أشخاص، وبذلك يكون عدد من يطّلعون على كل عدد هو نحو نصف مليون قارئ.

ومن خلال وقفة قصيرة مع الأعداد الثلاثة الأولى، واستعراض العناوين التي شغلت هذه الأعداد، نجد العدد الأول ستّ عشرة صفحة، ويبدو الاهتمام بالشأن الثقافي العربي أساسيّا، سواء تعلّق الأمر بالعنوان الأول من العدد الأول، وهو "مكافحة الأميّة"، أو بعناوين مثل "مكافحة الملاريا"، أو حضور المادة التراثية من شعر (الأعشى والمتنبي مثلا) وقصص من التراث مجهولة المؤلف، لكن العدد يخلو من أسماء كتاب المقالات، باستثناء رئيس التحرير حافظ البارودي وسكرتير التحرير ألبرت أردلا، ما يعني أنها كانت تقوم على جهود المحررين، وليس بالاستكتاب.

مراحل التجدّد والتطوير
وبالانتقال إلى المرحلة الأخيرة من حياة هذه المجلة، نجد المسافة التي قطعتها، بل القطيعة مع المراحل الأولى، لجهة التطور التقني والفنّي الذي شهدته، ولكن في إطار يحافظ على "النّهج" الذي انطلقت به، نهج يتجدد لمجلة أريدَ منها أن تحمل لقارئها "ثقافة متنوعة وسهلة ومشوّقة، إضافة إلى أنها حملت له قيمَ العصر الحديث وتوجُّهاته الاجتماعية والبيئية". ونقف على العددين الأخيرين عموما، والعدد الأخير خصوصا، لنجد العددين المذكورين زاخرين بمادة ثقافية متنوعة وشديدة الغنى، على صعيدَي الشكل والمضمون، حيث تظهر واضحة بصمات "المحترف" في التصميم الفنيّ الرّاقي وفي التحرير أيضا. فمن الغلاف الأول، الذي يقوم على تنفيذ فني لفكرة "الملف" الرئيس في العدد، نتصفح العدد من كلمة رئيس التحرير الشاعر المعروف محمـد الدميني، حتّى الكلمة الأخيرة المرتبطة بالملف والغلاف الأول.

ولأن "الملفّ" يمنح للغلاف لوحته وتصميمه، نتوقف عند هذا القسم، ويحتل ست عشرة صفحة من المجلة، وسنكتشف صيغة جديدة في العمل الصحافي/ الثقافي، ففي ملف العدد السادس من سنة 2015 (أي العدد قبل الأخير)، هناك متابعة ثقافية للرقم (صفر: اللاشيء وأضعافه)، تحت عناوين فرعية تبدأ بسؤال "من الذي اخترع الصفر؟"، و"بين بغداد وقرطبة: الصفر يولد من جديد"، و"أصل كلمة صفر"، و"الصفر رديفا للشيطان"، و"من صفر إلى زيرو" (هنا نكتشف كيف تحولت كلمة صفر العربية، إلى (Zefiro) الإيطالية، ومنها إلى zero الانجليزية).
العدد الأخير من مجلة القافلة 
 
أما ملف العدد الأخير (يناير/ فبراير) مثلا، فهو مفاجأة حقيقية، إذ يتمحور حول "الجينز الأزرق"، فكيف يكون هذا القماش محور ملفّ ثقافيّ؟ موضوع جدير بالمعالجة من زوايا كثيرة، وقد تمّت معالجته هنا بكثير من الدقّة والشمولية والعمق، وليس بروحيّة "الأزياء" والمنوّعات، لنتعرف على هذه "المادة" التي تحتل حيزا كبيرا في حياتنا "العملية" و"الجمالية". فنحن هنا أمام "ثقافة" غير متاحة في وسائل الإعلام "الخفيفة"، بل حيال ملف ثقافي من إعداد الكاتب والناقد السينمائي إبراهيم العريس والكاتب شوقي الدويهي، أستاذ مادة الأنثربولوجيا في معهد العلوم الاجتماعية - الجامعة اللبنانية، اللذين يعرضان كيف اكتسب "سروال الجينز الأزرق، خلال العقود القليلة الماضية، مكانة في الحياة اليومية ترتقي به من كونه مجرد قطعة لباس إلى مرتبة ذات بُعد ثقافيّ واجتماعيّ تستحقّ التوقّف أمامها".

وللوصول إلى غاية الملفّ، وهي معرفة "لغز تمسُّك العالم بقطعة ملابس موحّدة استمدّت قيمتها الأولى من بساطتها"، يعرض العريس والدويهي محطّات وملامح تطور العلاقة مع "الجينز"، منذ اكتشافه على يد تاجر يُدعى ليفي شتراوس "دخل اسمه عالم الخلود بفضل نوع من القماش، وعقل تجاريّ واعٍ"، وهو الرجل الذي "حفزه حسّه التجاريّ، ذات يوم من العام 1850، ليبتكر سروالا باعت شركتُه منه في قرن ونصف القرن، حتّى اليوم، أكثر من مليار قطعة، إذا لم نذكر سوى السراويل".

ويصل الملفّ إلى نهايته، مع استعراض "الجينز في الغناء الغربي"، من خلال ثلاثة نماذج تجسد بدايات هذه العلاقة في التمثيل، حين ظهر إلفيس بريسلي بالجينز في فيلم "جيلهاوس روك"، في خمسينات القرن العشرين، ثم ظهر مارلون براندو في فيلم "المتوحش"، ثم صار الجينز مزاجا في الغناء، ومن أشهر الأغاني أغنية الأميركي نيل دايموند "بالجينز الأزرق إلى الأبد" (1979)، ومن كلماتها:

قد تتكلّم النقود/ لكنها لا تغني، ولا ترقص، ولا تمشي/ وطالما كان بوسعي الاحتفاظ بك هنا، معي/ فإني غالبا ما سأبقى مرتديا الجينز الأزرق إلى الأبد".


(كاتب وشاعر من الأردن)

المساهمون