المالكي في مواجهة ثوار تشرين

26 اغسطس 2020
+ الخط -

يفيدنا أحد المقرّبين من رئيس الوزراء العراقي الأسبق، نوري المالكي، بأن الأخير منذ ترك موقع الرجل التنفيذي الأول ظلت عينه على هذا الموقع الذي يرى، في أعماق نفسه، أنه الأحق به من غيره، وقد سلب منه عنوة. ووصل به الغرور حد الاعتقاد أنه وحده القادر على إدارة شؤون البلاد ومن دون منازع. وهذه الخصلة التي لازمته منذ تركه المنصب المذكور مرغما جعلته، بحسب المقرّب منه، يعمل سرا وجهرا على صنع المكائد وحبك المؤامرات، للنيْل من الذين قدّر لهم أن يتسلموا المنصب المذكور بعده، أو حتى الذين رشّحوا للمنصب، ولم تخدمهم الظروف. وظل على أمله في أن تتاح له الفرصة للعودة إليه. ومعروفٌ أن التفاتة شريرة جاءت به إلى السلطة، بعد أن وجد الأميركيون فيه "الدجاجة التي تبيض ذهبا": طاعة واستعدادا للخدمة وتقبلا للتوجيهات الآمرة، لكن المالكي على ما يبدو كان يمارس "التقية" في تمسكنه أمامهم، وما أن قدّر له أن يتمكّن أدار ظهره لهم وفوض أمره للإيرانيين الذين محضوه ثقتهم، وحولوه إلى ما يشبه "مندوبا ساميا" لهم في العراق!

ليست هذه خصلة المالكي الوحيدة، إنما رافقتها، ومنذ البداية، خصال لئيمة أخرى، لعل أقلها التنطّح في مساجلاته في الشؤون العامة إلى درجة اللؤم الفاضح، بخاصة في مواجهة شباب ثورة تشرين الذين عكسوا تطلعات العراقيين في حياةٍ أفضل، افتقدوها في ظل "العملية السياسية" الطائفية، وعرّوا شلل الفساد والجريمة، وطالبوا بحقوقهم باعتبارهم بشرا.

يخاف المالكي من أن يتصدّى من سيؤول لهم الأمر فيما لو انتصرت حركة الشباب، لوضعه في قفص الاتهام ومقاضاته عما جنت يداه

في حديث متلفز له أخيرا، يصف نوري المالكي الشباب الثائر بأنهم "مجموعات فوضوية خارجة على القانون، تخرّب وتقتل وتدمّر، وواجب الحكومة ردعهم لاستعادة هيبة الدولة، (...) وهناك الناصرية ومحافظات أخرى شبه ساقطة، (ونحن) نحتاج خطة لفرض القانون، وإلى تعبئة، والى تعامل مع من يتجاوز على هيبة الدولة"! وقارن المالكي بين سقوط الموصل في عهده وما يحدث اليوم في الناصرية والبصرة. وكي يخلي مسؤوليته عما حدث في الموصل، زعم أنه نجح في صد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) عن بغداد، وكذا في تحقيق المصالحة الوطنية، وهي أمورٌ يعرف هو قبل غيره أنه فشل فيها، وأنها عادت على البلاد بشرٍّ مستطير!

وللتذكير فقط، سبق أن هاجم المالكي حركة الاحتجاجات التي شملت أكثر من مكان في العراق، ووصف المحتجين بأنهم "أبناء السفارات"، ويخدمون جهات أجنبية... ما يثير هواجسه خوفه من أن يتصدّى من سيؤول لهم الأمر فيما لو انتصرت حركة الشباب، لوضعه في قفص الاتهام ومقاضاته عما جنت يداه، عندما كان مسؤولا أول في أسوأ فترة في تاريخ العراق، وهو يدرك أن التهم التي عليه مواجهتها كثيرة: سقوط الموصل، ومجزرة سبايكر، وارتكاب جرائم ضد الإنسانية، وانتهاكات حقوق الإنسان، وهدر وخسارة أكثر من مائة مليار دولار، وعمله على إشاعة النعرات الطائفية والمذهبية، وواحدة من هذه التهم كافية لإنهائه سياسيا ووأد أحلامه.

رد ثوار تشرين على المالكي وأحرقوا صوره، وكتبوا: "نحن هنا (في الساحات) بلا لثام، فلا يرمنا بالحجارة من بيته من زجاج"

يظل أمامنا ما هو مرصود في أن حملته ضد شباب حركة الاحتجاجات هذه تعكس تحريضا صريحا لمن يتبعه من مليشياويين ظاهرين ومستترين على مواجهة الناشطين وتصفيتهم جسديا، وما تسرّب من مصادر عديدة يشير إلى توافق ممنهج ومحسوب بين تحريضه وما وصف بوثيقة سرية كشف عنها النقاب أخيرا ضمّت أسماء ناشطين قيل إن أبو مهدي المهندس، المسؤول عن "الحشد الشعبي" آنذاك، كان أعدّها بطلب من قائد الحرس الثوري، قاسم سليماني، الذي كان يتولى الإشراف على ملف العراق، والغرض هو اغتيال أولئك الناشطين، وإنهاء حركة الاحتجاجات مهما كان الثمن، خصوصا بعد أن تخطّت الخطوط الحمر، وتعرّضت للهيمنة الإيرانية، وطالبت برحيل "وكلاء" إيران عن السلطة.

وهناك هدف آخر للمالكي في تصعيده لهجته ضد شباب ثورة تشرين، وهو استدراج رئيس الوزراء، مصطفى الكاظمي، الذي اقترب من حركة الشباب، ووعد بالنظر في مطالبها، ودفعه إلى اتخاذ مواقف محدّدة وإحراجه تمهيدا لإخراجه، وكان أفصح عن هذا القصد عندما قال إن بعض تابعيه طلبوا منه أن يسمح لهم بتنظيم تظاهراتٍ ضد الكاظمي، إلا أنه لم يستجب لمطلبهم، وآثر التريث انتظارا لما سيفعله الأخير، على حد قوله!

ولا نجد ردّا على طروحات المالكي أخيرا أكثر وضوحا من رد ثوار تشرين عليه، أحرقوا صوره، وكتبوا: "نحن هنا (في الساحات) بلا لثام، فلا يرمنا بالحجارة من بيته من زجاج".

583FA63D-7FE6-4F72-ACDD-59AE85C682EB
عبد اللطيف السعدون

كاتب عراقي، ماجستير علاقات دولية من جامعة كالجري – كندا، شغل وظائف إعلامية ودبلوماسية. رأس تحرير مجلة "المثقف العربي" وعمل مدرسا في كلية الاعلام، وشارك في مؤتمرات عربية ودولية. صدر من ترجمته كتاب "مذكرات أمريكيتين في مضارب شمر"