اللغة السياسيّة في لبنان.. نكاية وإخفاء وانفصام

29 مايو 2014

نواب لبنانيون في جلسة للبرلمان (مايو 2014 أ.ف.ب)

+ الخط -
يروي أنيس فريحة في كتابه: "القرية اللبنانية، حضارة في طريق الزوال" (بيروت: دار النهار 1980)، أن قروياً لبنانياً فقيراً أشعل اللحاف الوحيد الذي يملكه ويغطي أبناءه به ليلاً، ابتهاجاً بفوز أحد المرشحين للنيابة. وعندما سُئل هل النائب الفائز قريبه أو صديقه، أجاب: لا، لكن نكاية بجاره الذي يناصر مرشحاً آخر. تعكس هذه الحكاية الازدواجية المقيتة في لغة السياسة في لبنان. ومن المصادفات اللافتة أن 25 مايو/ أيار 2014، أي عيد التحرير، هو اليوم الذي دشن لبنان فيه فراغاً دستورياً على مستوى الرئاسة. مع ذلك، لا يخجل الزعماء اللبنانيون الذين فشلوا في انتخاب رئيس للجمهورية، من تكرار الكلام عن المصلحة العليا، والحرص على أمن لبنان واستقراره. واللغة اليومية في لبنان، ولا سيما لغة السياسة والسياسيين، فيها قدر كبير من الاحتيال، شأنها في ذلك شأن اللغة العربية الفصيحة. ففي لغتنا يُقال: "الهواء العليل"، والمقصود "الهواء المنعش". ويُقال للكفيف: "البصير"، خلافاً للمعنى الأصلي، من باب الرجاء. وعلى هذا النحو، عندما يقول سعد الحريري: "يا أبناء بيروت"، فإن الذهن ينصرف فوراً إلى أهل السُنّة من أبناء بيروت. وعندما يقول السيد حسن نصر الله: "يا أشرف الناس"، يذهب المعنى فوراً إلى الشيعة أو إلى شهداء الشيعة بالتحديد. وعندما كان رئيس الجمهورية ينطق عبارة: "أيها اللبنانيون"، فإن اللبنانيين يضمرون فوراً أن المُخاطب هو الموارنة.
اللغة السياسية اليومية في لبنان قبيحة واحتيالية، وجميع السياسيين لا يتورعون عن القول: "أنا ضميري مرتاح". إذاً، مَن الذي ينهب، ويحرِّض جماعته على الجماعات الأخرى، ويتلقى الأموال من الخارج، ويُلهب الغرائز المذهبية، ويحرك الفتن، ويهرِّب المخدرات، ويعتدي على أملاك الدولة وعلى أملاك الناس معاً؟

ومن العبارات التي شاعت على ألسنة السياسيين اللبنانيين، ورجال الدين خصوصاً، في أثناء الحرب الأهلية اللبنانية، عبارة: "هيدا ليس من أخلاق اللبنانيين"، في إشارة إلى المذابح والمجازر وعمليات القتل التي فتكت بالأبرياء من جميع الملل والنحل. والمعروف أن مَن يقرأ تاريخ المناطق التي صار اسمها لبنان، يعثر على آلاف القصص عن سمل العيون وجدع الأنوف وقطع الرقاب. ولم يتغيّر الكثير حتى الآن؛ فالمجازر من تل الزعتر حتى صبرا وشاتيلا تكاد تفيض عن حاجة المؤرخ. أخلاق مَن حقاً إذا لم تكن أخلاق الذين فعلوها؟
إذا رغب اللبناني في أن يستفسر عن أمر ما، يسأل: "شو دينو؟". وإذا أراد أن يعبّر عن إعجابه بامرأة، يقول: "يخرب بيتها شو حلوي"، وإذا امتدح شخصاً يعبّر عن ذلك بقوله: "يخرب زوقو"، والزوق هو العامر من الأرض. وفي لبنان نحو خمسين جامعة، ومع ذلك، بعلبك تصبح في أفواه بعضهم، حتى المتعلمين، "معلبك". وبعبدا، وهي مقر رئاسة الجمهورية، يلفظها العامة "معبدا". ويقولون: "ابن العام" بدلاً من الأمن العام، و"أرملي" بدلاً من أرمني، و"مكدوشة" عوضاً عن بلدة مغدوشة المشهورة، ويتعازم الشبان على "همبرغر دجاج" (تشيكن بيرغر). ومن غرائب الكلام الدارج على ألسنة اللبنانيين أن جمع فيلم هو "فْلومي"، وجمع "ماتش" (مباراة) "مْطوشي"، وجمع نمر "نْمورا"، وجمع فيل "فْيولي"... وهكذا. وتشيع في الكلام اليومي ألفاظ باهتة من قبيل: Domain, donk, so  وغيرها، حتى أن إحدى مقدمات البرامج الثقافية ختمت إحدى حلقات برنامجها بالقول: "بون ويك أند وإلى اللقاء"، أي ثلاث كلمات من ثلاث لغات.
كان الراحل إلياس شوفاني يصف اللغة العبرية الحديثة، وهي خليط من العبرانية والييدشية واللغات الأوروبية، بأنها "لغة مقلعطة"؛ فالإسرائيلي، حين تعوزه كلمة أو عبارة ما، يستخدم المعنى الذي يلائمه من لغة البلد الذي هاجر منه إلى فلسطين. وعلى هذا النحو، صارت اللغة العبرية الجديدة في إسرائيل مثل "عشاء النَوَر" فيه كل شيء، لكن من دون طعم. وعلى هذا الغرار في لبنان، صرنا نعرف، أن فلاناً "مْفَوكس" (من كلمة focus)، وأن فلانة "مْدَبرسة" (من Depression). وبتنا نفهم طلبات مثل "أَسْمَسْلي" (أي إرسل إلي رسالة نصية قصيرة sms) و"مَسِّجلي"(أي أرسل إليّ رسالة Mesage) و"فَكِّسلي" (من فاكس) و"مَسْتكِلي" (أي أرسل Missed call).

الازدواجية في اللسان والمجتمع

يشكل التناقض بين ثقافتي المدن الساحلية والجبل اللبناني أداةً منهجية لفهم تاريخ الاجتماع اللبناني الحديث ومشكلاته. فمنذ مطالع النصف الثاني من القرن التاسع عشر، بدأت مدينة بيروت تتحوّل من قرية زراعية على الساحل إلى مدينة تجارية، حين هاجرت إليها الـ"جوالي" اليونانية والأرمنية واليهودية. وأدت هذه العملية التفاعلية إلى ظهور العصرنة في المدينة، والتي كان لتأسيس الكلية الإنجيلية السورية (الجامعة الأميركية في ما بعد) أثر مهم في ذلك. ثم هبط الموارنة والدروز المدينة من الجبل للعمل في التجارة أو العلم، خصوصاً بعد حوادث سنة 1860. وهكذا، نشأ في بيروت نظام معياري، عبارة عن ثقافة فلاحية، لكن في سياق حضري. ونتيجة لقيام نظامين للقيم (نظام الفلاح ونظام التاجر)، راحت "الشخصية اللبنانية" تتّسم بالازدواجية، أي سلوك مجتمع زراعي وثقافة مجتمع حديث. والازدواجية موجودة لدى جميع الشعوب والأفراد، وهي أمر طبيعي ومألوفة جداً، لكنها في لبنان باتت حالة مَرَضية تماماً، فاللبناني يحب وطنه جداً، كما يردد في كل يوم، غير أنه يسعى، بكل جهد، إلى الحصول على جنسية أجنبية. وهو أقل الناس تمسكاً بالدين والتديُّن، لكنه أكثر الناس انهماكاً في المنازعات الطائفية. ولبنان، يا للمفارقة، بلد الحريات وبلد الديكتاتوريين معاً؛ فكل زعيم في طائفته ديكتاتور، وهؤلاء الديكتاتوريون أقاموا في ما بينهم نظاماً فيه بعض الحريات. ويبدو لبنان بلداً محافظاً دينياً في ما لو اكتفينا بمشاهدة الحشود الهادرة في عاشوراء مثلاً، أو جماهير المصلين في أيام الجُمَع، أو جمهور المشاركين في قداديس الأحد وفي الاحتفالات الدينية. ومع ذلك، فإن لبنان بلد التحرّر الجنسي بلا قيود.
الازدواجية في المجتمع اللبناني، وفي "الشخصية اللبنانية"، هي منبع الازدواجية في اللسان اللبناني. لكن، ممّا لا شك فيه أن اللغة اليومية الشائعة في لبنان، تعكس، إلى حد ما، هشاشة تلك الشخصية واستعراضيتها، وفقدانها قيم الأصالة والتجدّد معاً، الأمر الذي يحوِّل الثقافة إلى مجرد استعراض بلا أي مضمون، تماماً مثل تحوّل الغناء في لبنان (وفي عواصم عربية أخرى أيضاً) إلى استعراض للأرداف والنهود والقوام المثير.