الكتابة برسوم مسبقة

22 يناير 2016
خالد ضوّا / سورية
+ الخط -

من اللافت أن يكون مبدأ الالتزام في الأدب والفن، قد نشأ في البلدان التي شهدت أنظمة سياسية ذات طابع استبدادي. واللافت أكثر أيضاً أن الدعاة ليسوا من الأدباء ولا من أنصاف الأدباء، بل من السياسيين أو من المفكّرين المقرّبين من رجال السياسة، أو من القادة في تلك الدول، واللافت ثالثاً، أن أكثر من يستجيب لمثل تلك الدعوات هم من الكتّاب المتوسّطي القيمة الإبداعية في آداب بلدانهم.

وفي الغالب لا يريد ستالين مثلاً -وهو الحاكم الذي نشأت في ظل هيمنته أقوى دعوات الالتزام- خدمة مجتمع ارتكب فيه عشرات المذابح، وقتل الملايين من البشر، ووضع من تبقى من المجتمع في سجن كبير مدجّج بالرعب.

تبدو دعوة الالتزام هنا ساخرة، وتكون في الغالب مدخلاً لمنع الكتابة الحرة بذريعة المبادئ. فالكتابة الإبداعية مضادة للمبادئ العرفية. والأدب لا ينمو ولا يبدع إلا في مناخ الحرية، بينما ينمو مبدأ الالتزام في مناخ القسر والرسوم المسبقة، والطوابع المالية الملزمة في أوراق القبول.

وفي الغالب فإن تاريخ الأدب لم يقدّم نماذج مهمّة ناجمة عن المدرسة، بل قدّم قرائن وأدلة على التبعيّة، لدى الأجيال التي تأتي بعد تأسيس المدارس الأدبية أو الفكرية.

على أن الوجه الآخر الغريب لمبدأ الالتزام ذي الطابع القسري المهدد، هو الدعوات التي تدّعي أن الفن حرام. أو أن الفنون التشكيلية أعمال وثنية. يتطلب التزمّت الديني في هذه الحالة أن يقوم الأنصار الأكثر حماسة بتحطيم ما يبدعه الفن من أعمال نحتية بالمعاول والمطارق المعدنية، أو تمزيق وحرق اللوحات الفنية.

وفي هذا الباب قلّما يختلف المتعصب الديني، عن المتشدّد الأيديولوجي الداعي إلى الالتزام. وقد حُرِم ناقد روسي شهير هو ميخائيل باختين من نشر كتبه ومؤلفاته، كما لم يجرؤ كاتب من طراز ميخائيل بولغاكوف على نشر روايته المعروفة "المعلّم ومارغريتا" وعمل على تأجيل نشرها طوال حياته، ومات دون أن ينشرها.

وحين نشرت بعد موته اقتطعت منها فصول وفقرات كثيرة، كي تصبح صالحة للنشر في بلد يعتبر أن الالتزام عمل نبيل وأخلاقي. لكن ما هو اللاالتزام في رواية مثل "المعلّم ومرغريتا"؟ من حسن الحظ أن النسخة المترجمة إلى اللغة العربية (ترجمها يوسف حلاق ولها أكثر من طبعة) قد أخذت من النسخة الأخيرة التي أفرج عنها بعد سنوات طويلة في الاتحاد السوفييتي السابق، بعد أن خفتت أصوات دعاة الالتزام، أو تلاشت. وهي تثبت أن الكاتب الذي لم يأخذ التعليمات من الدعاة، ظل خائفاً منهم طوال عمره.

والطيب في أمر "الالتزام" العربي أنه ظل في المضمار الأدبي، وأن السّاسة قلما اهتموا بأن يصدروا الأوامر "الملزمة" بـ "الالتزام" في الأدب والفن على غرار الاتحاد السوفييتي. وظلّ الشعار الذي صاغه رئيف خوري: "إن الأدب كان مسؤولاً"، بعيداً عن الإلزام، وقريباً من الإشعار الأخلاقي بالضرورات التي يسير إليها الكاتب، في الموقف من القضايا الاجتماعية والوطنية، أو الموقف من القيم الإنسانية الكبرى.


اقرأ أيضاً: زمن التأديب وزمن القتل

دلالات
المساهمون