الكاهن الأكبر

26 سبتمبر 2014

محمد حسنين هيكل

+ الخط -

منذ ثورة يناير في مصر بهدفها الواضح، وانقلاب 3 يوليو بشكله الفاضح، سقطت أقنعة، وانكشفت أوجه، وتناقضت مواقف، وبدت الخيارات متلونة متقلبة، إلا أن هذه الظواهر الكاشفة الفارقة كأنها تؤشر على أشخاصٍ أثرت، بشكل مباشر ومفصلي، في هذه الحالة الانقلابية، ويقع على قمة هؤلاء "الكاهن الأكبر"، بكل خطاباته وأدواره التي تحدد دوراً مرسوماً وخطاباً زائفاً مصنوعاً.

وفي هذا المقام، يمكن الإشارة إلى الكهانة ووظائفها في النظم الاجتماعية والسياسية، في محاولة لتسويق هذا "الفرعون" لدى جملة الناس، بما يؤكد طاعته ويبرر شرعيته، والكهانة تستخدم خطابها غطاءً لعمليات تبرير وتمرير وتزوير، الكاهن الأكبر رجل لكل العصور، "إنني رجل أعرف جيداً حدودي وأعتز بذلك وأعرف أين أقف؟ ولا أتجاوز هذه الحدود وأنا موجود لمن أراد أن يستمع رأيي، وأنا منذ عام 74 عندما توقفت عن العمل السياسي، كل رئيس مصري أراد أن يستمع لي لم أتأخر، بداية من السادات حتى بعد أن اختلفنا، ثم الرئيس مبارك ثم مرسي، وأنا أعتقد أن أي مواطن عندما يسأله رئيس أي دولة عن شيء، فعليه أن يجيب".

تخطى الكاهن الأكبر عامه التسعين، ومع ذلك، فهو يرسم الخرائط ويخطط الاتجاهات، يرسم السيناريوهات ويقدم التبريرات، ومن العجيب، وهو في هذا العمر، يتحدث عن مستقبل مصر. هكذا يتحدث الطاعنون في السن والعجائز وذوو الشعر الأشيب عن مستقبل الأطفال والشباب، عن مستقبل مصر الوطن والشعب "أنا لا أعرف إلى متى سننتبه، ونعرف أن مستقبلنا لايصنع بهذا الشكل، نحن بددنا ثروات وضيعنا الشباب، وأربكنا أفكاراً" وهو لا يلحظ أنه على رأس هؤلاء الذين سرقوا المستقبل، وأربكوا الأفكار.

ولا بأس أن يلبس الثورة أثواباً كثيرة فضفاضة، تجمع بين وهج ثورة حقيقية وزيف ثورة مضادة، إمعاناً في التدليس ورغبةً في التلبيس، "الناس رأت بنفسها ما حدث على مدار ثلاث سنوات من التخبط والضياع، وأن ثورة يناير شوهت، لعدم قدرتها على الوصول، رغم أنها مشهد مهيب لا يمكن أن يغيب من ذاكرة التاريخ المصري، ثم تجربة الإخوان.. في عام واحد لم يجدوا، على رأي المثل، "تحت القبة شيخ"، ولم يطل فترة الوصول للحقيقة فيما يتعلق بالإخوان."

كاهنهم الأكبر حينما يتحدث عن المستقبل يصّدر كلامه، في البداية، أنه لا يريد الحديث عن المستقبل، ولكنه، مع ذلك، يسترسل متحدثاً، يجتر الماضي فيكرسه، هكذا حال الأشيب حينما يفكر في المستقبل، مستغلاً مظهره وكبر سنه، في وصفه بالحكمة، تنساب الحكمة في كلامه وخياراته، بل هو "أبو العرّيف". أريد أن أقول .. "من المعيب، من ناحية السن، أن أقول إننى المستشار الأول للرئيس، ومن العيب، بالتجربة التاريخية، أن أقول ذلك، أنا لست رجل كل العصور، ثقافتي، حتى السياسية، لا تصلح لذلك، لأنها متولدة بالمعارف والتجارب فى زمن معين، ووجودى بالقرب منه ربما يكون مقلقاً لحلفائه في المنطقة، خاصة أنني لدى مواقف معينة معروفة".

الكاهن الأكبر يخترع وظيفة المبرراتي، من مثل "مرشح الضرورة" و"رجل المرحلة"، ليبرر انقلاباً عسكرياً فاضحاً فادحاً في تأثيراته على الوطن، والمؤكد أن المبرراتي، في حقيقة الأمر، خبير عسكر واستبداد، قيمته يستمدها من أهل السلطان، "تذكري رصيده بين الناس فقط غطى أكثر من 60 مليار جنيه فى ثمانية أيام، وهو حجم تأييد كبير"، "الأمل تستطيعين أن ترصديه بما تريه من مظاهر، على سبيل المثال، فى المائة يوم الأولى التى نتحدث عنها، مشروع مثل قناة السويس، سنجد أنه تحول إلى ساحة عمل غير محدودة وترين الكراكات، وكأن البلد كانت تنتظر أن يدعو همتها أحد، فهي مقبلة، وغريب جداً، حقيقي لم يسأل الناس عن دراسة جدوى، وأنا مطمئن جداً".

كاهن الانقلاب الأكبر من حملة المباخر، محترف التبرير، ليس تبرير الإنجازات، ولكنه يبرر النكسات، ويؤسس لمعاني القبول لها، بل ربما يقلبها انتصارات، وهو يقوم في ذلك بكل تعويم وتهويم للقضايا والأحوال، "الدولة كصاحب الرؤية الاقتصادية والاجتماعية، والسؤال ما هي قيمة السياسة؟ أن تعبر عن مطالب الناس وصدق التعبير، هذا هو جوهر السياسة، والقدرة على تنفيذ المطالب"، ونسي الكاهن، وربما تناسى أن خطاب "السيسى المنتظر" كما يحلو له أن يصوره، لا يدور حول تحقيق المطالب كما يقول، بل إن خطابه يدور بين "مفيش" أو "أنا عايز" و"مش قادر أديك".

كبير الكهنة تخصُص انقلابات يجد المتعة في إضفاء حق على باطل، في إطار اللامنطق الانقلابي، في تسويغ طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد، يزهق كل قيم التأسيس في الحرية والعيش الكريم والعدالة الاجتماعية، فيتغافل عن ذلك كله، وهو جوهر ثورة 25 يناير، لينصب نفسه فيلسوفاً للثورة المضادة، يمكّن لها، ويثبت مصالحها. الكاهن الأشهر عينه على رجل السلطة المستبد "فرعون"، وهو مركز اهتمامه، لا شأن له بالشعوب، وهو يصف المنقلب بالكاريزما، ويوزع عليه الأوصاف "أرجوك لا تنفق من هذه الكاريزما، واعتبرها رصيداً احتياطياً لك، لا تمسه، ولا تسرف فيه".

شعب التعبئة هو ما يريده ليسوغ من خلاله الاستبداد "أن الشعب بدأ يستعد في مواجهة الإرهاب ومواجهة المشروعات الكبرى ورجل. منحوه هذا التفويض بالتأييد وواثقين فيه، تشعرين أنه، بشكلٍ ما، أمام وضع ناس بدأ يعود إليها نوع من الأمل، وأنها قادرة على إنجاز شيء"، في خلاصة نفاقية يؤكد "السيسى رجل نادته الظروف".

الكاهن الأكبر مسموع الكلمة ذائع الصيت والسمعة، هذا هو هدفه المنشود، حتى لو كان فى ذلك ضياع شعب وأمة، يجمع بين مثلث السلطة الجهنمي في شخصه؛ فهو رجل مال وأعمال، ورجل إعلام وتشكيل زائف للرأي العام، ورجل سلطة يملك في عقله مغناطيساً، يحرك به أفكاره صوب فرعون، مبرراً استبداده، ومحتضناً فساده.

ECE602C0-DB35-414B-9572-17B675CE3C2A
سيف الدين عبد الفتاح

كاتب وباحث مصري، مواليد 1954، أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة، من مؤلفاته "في النظرية السياسية من منظور إسلامي"، و" التجديد السياسي والواقع العربي المعاصر.. رؤية إسلامية".