القومية ضد الوطنية.. سجالٌ أم اتهام؟

25 نوفمبر 2014
+ الخط -

لأننا في مرحلة دقيقة من تاريخ الأمة العربية، كما كل تاريخنا الحديث تقريباً، منذ تقسيم سايكس بيكو ووعد بلفور، وصولاً إلى احتلال فلسطين، فلا بأس من إعادة السجال في مفاهيم أساسية، اعتقدنا، برهة، أننا انتهينا منها. لكن، يبدو أن ذاكرة الحالة الثقافية السعودية السياسية ضعيفة، أو إن بعض المنتمين لهذا الحقل مصابون بشيخوخة مبكرة.
عند الاقتراب من الساحة الثقافية السعودية، يجد المراقب نفسه أمام تيارات متعددة الاتجاهات الفكرية والسياسية؛ إسلامية، أو ليبرالية، أو قومية، مع وجود تمايزاتٍ داخل كل حالة، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، نظراً إلى غياب الأطر السياسية المنظمة. لكل تيار تاريخ من العمل السياسي والفكري، كما أن لكل مدرسة ينابيع معرفية تنهل منها، والتيار القومي في السعودية، إذا جاز لنا تسميته تياراً اليوم، يعود تاريخه إلى مطلع الخمسينات، حينما ازدهرت العروبة في الأقطار العربية كافة، مع صعود الناصرية، وقد قاد هذا التيار، بجانب التيارات اليسارية، النضال ضد الاستبداد، وضد التمييز بحق العمال السعوديين في شركة أرامكو، قبل ولادة الإسلام السياسي، أو التيار الليبرالي، بعقدين على الأقل، كما رفض هؤلاء القوميون الانعزال في قطريةٍ، تعزل المواطن السعودي عن قضايا أمته.
ساجل بعضهم في كون الانتماء لهوية قومية هو، بالضرورة، على حساب الوطن واستقلاله وقضاياه، وهذا سجالٌ ليبرالي، غالباً، لكون العروبي شخصاً متجاوزاً الحدود الوطنية، وعليه إثبات ولائه للدولة القطرية في كل مناسبة، يتعرض فيها هذا الكيان لتهديد خارجي، بحسب ادعائهم. لكن، ما حصل، هذه المرة، يعد سابقة، لكونه أكثر تفاهةً حتى من التساؤلات المطروحة على القوميين، مقارنة بسابقيه، وهو يتعلق أكثر ما يتعلق، بتشكيكٍ في النيات والدوافع، أكثر من كونهِ سجالاً في المواقف السياسية والمنطلقات الفكرية.
فلو أخذنا الهوية الوطنية، والهوية الطائفية مثلاً، والحرائق المندلعة في المشرق العربي نتيجة تفكك الدول الوطنية، وعبث المُستَعمِر، سنجد أن بعض المزايدات وصلت إلى الحد الذي تقوله فيه: ما دمت ضد وصول الحرب الطائفية إلى المملكة، وتبحث عن حلول لها داخل حدود بلدك. إذن، أنت بالضرورة شخص قُطري، تعترف بحدود الدولة الوطنية، تخفي هويتك الطائفية تحت رداء العروبة، بحسب منطقهم طبعاً، وكأن القومية ضد الوطنية، فلا يستوعب هؤلاء أن ثمة فارقاً بين المواطنة، كآلية قانونية للحقوق والواجبات، تساوي بين المواطنين وتجلب لهم نوعاً من العدالة الاجتماعية التي تحمي القُطر من التفكك، وتمنع الانزلاق نحو الاقتتال الأهلي على أقل تقدير، وبين الهوية العربية كانتماءٍ سياسيٍ، لأمة تناضل من أجل الاستقلال والتحرر والتكامل، وإن سؤال القومية ضد الوطنية غير مطروح في بقية الأمم، بحكم تطابق دولة الأمة (القومية) مع دولة المواطنة.

وكأن اختيار الهوية العربية سلعة رأسمالية، تُباع وتشترى في البورصة. كما يغفل هؤلاء أن الطائفية تسجل، هذه الأيام، أعلى النسب، فيما لو فكر الفرد في المضاربة بخياراته السياسية. وكأن المطلوب، اليوم، من الجميع، الانحدار في المستنقع الطائفي، وجرّ الاقطار العربية إلى أتون نارها، عوضاً عن العمل على تحييد من لم تصل إليه النار بعد. متناسين أن القومية شعور بالانتماء لأمة، وإن هذا الانتماء لا يتعارض مع الخوف على الوطن من الانهيار، فالقومية، كما نعتقد بها، تعني أن الوطن إذا ما أخذ بعده العربي، فذلك يحميه من التفكك، نتيجة غياب هوية جامعة، وذلك يستوجب على الفرد العروبي الانطلاق من إصلاح ودمقرطة القطر العربي الذي يعيش فيه، في سبيل الانتقال التدريجي والسليم إلى حالة تكاملية في الوطن العربي.
تتلخص المشكلة الرئيسة مع هؤلاء في عدم مقدرتهم على إدراك جوهر الهوية السياسية، وإنها تقد تكون عند بعضهم هوية متجاوزة للهوية المذهبية للفرد، والتي ولدت معه من دون أن يختارها لنفسه. يمكن تفهم مواقف أمثال هؤلاء المثقفين واتهاماتهم في سياق واحد، هو شعورهم بالعجز عن خوض نقاش مفتوح حول القضايا الكبرى، وإفلاسهم من أية أفكار يمكنها مواجهة حُجج العقل القومي، وعلاجاته الجذرية للمسألة الطائفية، والهوية السياسية بشكل عام. لذا، فإنهم يتجهون مباشرة للتشكيك في النيات ملاذاً أخيراً.
الهوية الفردية للإنسان، والتي تتشكل من دوائر عدة، لا بد لدائرة أن تستحوذ على البقية، وتطغى عليها، عند حالة التعرض للتهديد، وإن كان شعوراً وهمياً يُخالج الشخص، فيتحدد بناءً عليه اختياره الدائرة الأهم في ترتيب دوائره، فتحدد بذلك موقعه من الصراعات. إذا ما استوعبنا هذه المعادلة البسيطة، يسهل علينا تقييم مواقف الآخرين من الأحداث السياسية في الوطن العربي. ولأن هؤلاء أسرى الثنائية المذهبية للصراع، وللعلاقات الاجتماعية والسياسية، فلا عجب، إذن، إذا ما كان التنميط المذهبي هو القالب الوحيد الجاهز في أذهانهم؛ لتفسير الظواهر الاجتماعية، وفهم دوافع المختلفين معهم سياسياً.
في واقع الحال، هذه ليست المرة الأولى التي يتعرض فيها المثقف القومي للتشويه، ولن تكون الأخيرة، ما دام التنافس على تشكيل "المنطق العام" لازال مفتوحاً، وما دامت المسألة العربية لم تعالج، فالاتهام المُبطّن بإخفاء الولاء للطائفة خلف عباءة الهوية القومية، قد سبق ونال كبار المفكرين العرب، من أمثال ميشيل عفلق، وقسطنطين زريق، وجورج قرم، وعزمي بشارة، مع أن جميع هؤلاء أفنوا عمرهم الفكري في التنظير للقومية العربية، وللدفاع عن قضايا الأمة، وأن المشترك بينهم أنهم يتحدرون من أقليات دينية، إلا أن هذه التهمة ظلت سلاح العاجز، البارع في مخاطبة غرائز الجماهير.
نعيش، اليوم، واقعاً بائساً، يحتاج إلى برود أعصاب كثير، وتأملاً ومراجعة فكرية جادة كثيرَين، وقليلاً من توزيع التهم المجانية، في سبيل فهم مواقف الآخرين، فالسجال في القضايا الكبرى يساعد على ترسيخ دمقرطة "المنطق العام"، ولأن الساحة تستوعب الجميع، فليقدم لنا هؤلاء ما يملكون من أفكار، إذا كان لديهم ما يستحق النقاش.

59C609B9-D3BD-480F-B605-2AC47CF69F0B
محمد الصادق

كاتب سعودي، مؤلف كتاب "الحراك الشيعي في السعودية"