19 أكتوبر 2019
القنابل البشرية والاجتماعية الموقوتة
على الرغم من مرور أكثر من سبعين عاما على آخر قذيفةٍ أُسقطت في الحرب العالمية الثانية، على مدن ألمانيا وبلداتها، إلا أن بعض تلك القنابل ما يزال مدفونا تحت الأرض، أو تحت بقايا بناء قديم لم يُرمم بعد. وغالبا ما تُكتشف تلك القنابل، عند البدء بعمليات حفر لإنشاء أبنية جديدة، أو مدّ خطوط حديثة لسكك القطارات، وعندها تعزل السلطات المنطقة، وتُبعد أي وجود مدني في مجال الخطر، ثم تبدأ عمليات تفكيك القنبلة، بعد تحديد نوعها ومعرفة أفضل الطرق للتعامل معها.
بالطريقة نفسها تماما مع اختلاف التفاصيل، تتعامل الحكومات الألمانية المتلاحقة مع أي احتمالٍ لانفجار قنبلة بشرية أو اجتماعية من بقايا الحرب أيضاً، حيث تحيط بالمشكلة من جهاتها كافة، ثم تدرس كيفية الحيلولة دون انفجارها، ثم تفكيكها ومعالجتها بهدوء وروية، ومن دون أي استخفاف قد يودي إلى كارثة.
ربما لا يمكن مقارنة عدد القنابل التي تلقتها ألمانيا خلال الحرب العالمية الثانية مع ما تلقته سورية مثلا خلال السنوات الست الماضية (من دون التقليل ولو بمقدار شعرة من حجم الكارثة التي لحقت بالشعب السوري ومدنه)، إلا أن حجم القنابل الموقوتة، الاجتماعية والبشرية التي تُطمر اليوم تحت الأرض السورية، كفيل بتفجير المنطقة كلها مائة عام، إذا لم تتم إحاطتها والتعامل معها بجديّة مطلقة، لنتمكن من تفكيكها ونزع الفتيل.
ربما وضعت الحرب العالمية الثانية الشعب الألماني في مواجهةٍ مباشرة مع شعور عارم بالهزيمة، وإدراك مباغت لحجم الخسارات الفادحة على كل الأصعدة، وهذا ما قاده إلى البحث الحقيقي عن الطرق الأسلم لتخطي تلك المرحلة الكارثية من تاريخه، فبعد إجماع الألمان على أن الخطأ، كائنا من كان من ارتكبه، يجب أن لا يتكرّر تحت أي ظرف، كانت الخطوة الجريئة الأولى بالاعتراف بالذنب والمسؤولية، تبعها العمل بشكل متوازٍ على النهوض من جديد؛ "ماديا" بإعادة إعمار البنى التحتية التي دمرتها الحرب، بعد تهديم المنشآت المهشمة وإعادة بنائها، و"اجتماعيا" برأب الصدوع العميقة التي لحقت بالمجتمع، وذلك بكشط الجراح وتنظيفها ومعالجتها، ثم خياطتها من جديد، كي لا تتحول يوما إلى دمامل حقد دفين، قد ينفجر كقنبلة موقوتة مستقبلا.
ربما لا يحتاج تفكيك القنابل العادية أكثر من خبراء وخطوات أمانٍ باتت معروفة ومطبقة في دول كثيرة، عانت من الحروب حول العالم، لكن القنابل البشرية والاجتماعية لا يمكن تفكيكها، والحؤول دون انفجاراتها المرعبة، إلا بوجود نظام اجتماعي وسياسي ومؤسساتي شفاف، وصارم في المحاسبة، وتطبيق العدالة الاجتماعية، وهو ربما ما تملكه ألمانيا اليوم. أما في الحالات المعاكسة، حين تُحكم البلاد الخارجة من الحرب بأنظمة دكتاتورية، ينخرها الفساد، ويقبع الإنسان فيها في ذيل قائمة الاهتمامات، فإن أخطر ما يهدّد البشر والحجر فيها هو الاحتمال الحاضر في كل لحظٍة لانفجار تلك القنابل عند أبسط احتكاك أو ضغط غير مدروس. وهنا، ربما يكون لبنان المثال الأقرب إلى حروب باردة أو مشتعلة، تندلع بين فئات اللبنانيين كل حين، على الرغم من مرور أكثر من سبعة وعشرين عاما على إعلان "نهاية" الحرب الأهلية فيه، وهو ما ينطبق طبعا على العراق كمثال حي آخر غير بعيد.
وفي سورية، لم تضع الحرب أوزارها بعد، وما زالت تفصلنا عن الخطوة الأولى خارج هذه الدوامة أشواط قد تستغرق سنوات أخرى، لكن المهمة الأصعب من إعادة الإعمار وإزالة مخلفات الألغام والقنابل الحقيقية التي زرعت بها طائرات الأسد معظم الأراضي السورية، ستكون تفكيك قنابلنا البشرية والاجتماعية الموقوتة، والتي نصنعها، نحن السوريين، اليوم، بحرفيةٍ عالية، ونغطيها برماد الإنكار والمكابرة أحيانا، والذي سيعمي أعيننا يوما إن لم نتعلم كيف نواجه مشكلاتنا بدل القفز فوقها، وننزع الفتيل، بدل تعميق الحفرة والطمر.
بالطريقة نفسها تماما مع اختلاف التفاصيل، تتعامل الحكومات الألمانية المتلاحقة مع أي احتمالٍ لانفجار قنبلة بشرية أو اجتماعية من بقايا الحرب أيضاً، حيث تحيط بالمشكلة من جهاتها كافة، ثم تدرس كيفية الحيلولة دون انفجارها، ثم تفكيكها ومعالجتها بهدوء وروية، ومن دون أي استخفاف قد يودي إلى كارثة.
ربما لا يمكن مقارنة عدد القنابل التي تلقتها ألمانيا خلال الحرب العالمية الثانية مع ما تلقته سورية مثلا خلال السنوات الست الماضية (من دون التقليل ولو بمقدار شعرة من حجم الكارثة التي لحقت بالشعب السوري ومدنه)، إلا أن حجم القنابل الموقوتة، الاجتماعية والبشرية التي تُطمر اليوم تحت الأرض السورية، كفيل بتفجير المنطقة كلها مائة عام، إذا لم تتم إحاطتها والتعامل معها بجديّة مطلقة، لنتمكن من تفكيكها ونزع الفتيل.
ربما وضعت الحرب العالمية الثانية الشعب الألماني في مواجهةٍ مباشرة مع شعور عارم بالهزيمة، وإدراك مباغت لحجم الخسارات الفادحة على كل الأصعدة، وهذا ما قاده إلى البحث الحقيقي عن الطرق الأسلم لتخطي تلك المرحلة الكارثية من تاريخه، فبعد إجماع الألمان على أن الخطأ، كائنا من كان من ارتكبه، يجب أن لا يتكرّر تحت أي ظرف، كانت الخطوة الجريئة الأولى بالاعتراف بالذنب والمسؤولية، تبعها العمل بشكل متوازٍ على النهوض من جديد؛ "ماديا" بإعادة إعمار البنى التحتية التي دمرتها الحرب، بعد تهديم المنشآت المهشمة وإعادة بنائها، و"اجتماعيا" برأب الصدوع العميقة التي لحقت بالمجتمع، وذلك بكشط الجراح وتنظيفها ومعالجتها، ثم خياطتها من جديد، كي لا تتحول يوما إلى دمامل حقد دفين، قد ينفجر كقنبلة موقوتة مستقبلا.
ربما لا يحتاج تفكيك القنابل العادية أكثر من خبراء وخطوات أمانٍ باتت معروفة ومطبقة في دول كثيرة، عانت من الحروب حول العالم، لكن القنابل البشرية والاجتماعية لا يمكن تفكيكها، والحؤول دون انفجاراتها المرعبة، إلا بوجود نظام اجتماعي وسياسي ومؤسساتي شفاف، وصارم في المحاسبة، وتطبيق العدالة الاجتماعية، وهو ربما ما تملكه ألمانيا اليوم. أما في الحالات المعاكسة، حين تُحكم البلاد الخارجة من الحرب بأنظمة دكتاتورية، ينخرها الفساد، ويقبع الإنسان فيها في ذيل قائمة الاهتمامات، فإن أخطر ما يهدّد البشر والحجر فيها هو الاحتمال الحاضر في كل لحظٍة لانفجار تلك القنابل عند أبسط احتكاك أو ضغط غير مدروس. وهنا، ربما يكون لبنان المثال الأقرب إلى حروب باردة أو مشتعلة، تندلع بين فئات اللبنانيين كل حين، على الرغم من مرور أكثر من سبعة وعشرين عاما على إعلان "نهاية" الحرب الأهلية فيه، وهو ما ينطبق طبعا على العراق كمثال حي آخر غير بعيد.
وفي سورية، لم تضع الحرب أوزارها بعد، وما زالت تفصلنا عن الخطوة الأولى خارج هذه الدوامة أشواط قد تستغرق سنوات أخرى، لكن المهمة الأصعب من إعادة الإعمار وإزالة مخلفات الألغام والقنابل الحقيقية التي زرعت بها طائرات الأسد معظم الأراضي السورية، ستكون تفكيك قنابلنا البشرية والاجتماعية الموقوتة، والتي نصنعها، نحن السوريين، اليوم، بحرفيةٍ عالية، ونغطيها برماد الإنكار والمكابرة أحيانا، والذي سيعمي أعيننا يوما إن لم نتعلم كيف نواجه مشكلاتنا بدل القفز فوقها، وننزع الفتيل، بدل تعميق الحفرة والطمر.