07 نوفمبر 2024
القضيتان الفلسطينية والسورية
كما في مايو/ أيار الماضي، كذلك الآن. يضرب السجناء الفلسطينيون عن الطعام، احتجاجاً على سوء أوضاعهم في السجون الإسرائيلية، تنطلق حملة تضامن معهم، فينقسم الرأي بين متضامن ومتحمِّس وبين معاتب مذكّر بالسجناء السوريين في الأقبية الأسدية. والآن، يعلن الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، منذ أيام قراره بشأن القدس، فيعود الرأي وينقسم بين ساخط على أميركا والغرب ومستنكر السكوت عن جرائم حوّلت سورية إلى جهنم. القصة هي ذاتها تتكرّر منذ اندلاع الثورة السورية: إلا في النوادر، الآراء العربية، النخبوية منها والشعبية، تضعك أمام خيارين شكسبيريين: إما أنت مع فلسطين، وفيّ لنضالها، ولنفسك، أو أنك مع سورية، فتلفظهما. هكذا سار الأمر منذ ست سنوات. لماذا؟ لماذا تضعف القضيتان السورية والفلسطينية أمام بعضهما؟ بدل أن تتآزرا؟
مع أن الاثنتين لا تخلوان من نقاط تشابه، باتت معروفة. أهمها: أن سورية بلد عربي مثل فلسطين. وهذه ليست أقل النقاط أهمية. فإذا نظرتَ إلى اللوحة بمجملها، يمكنك القول إن ما يتعرّض له شعباهما مترابط مع مصائر العرب جميعاً: المحرومين من تقرير وجهة حياتهم، والغارقين في سراب تلاعب الكبار والمتوسطين، وحتى الصغار، بمصيرهم. ومنها، أيضاً، أن طرد الفلسطينيين من أرضهم، وتمليكها للمهاجرين اليهود الآتين من بقع الدنيا، هو صنو طرد السوريين من سورية، وداخلها، لصالح "أصدقاء بشار" أو "مجاهدين"، جاءوا من أصقاع الدنيا لييصادروا ممتلكات السوريين وأرضهم، أو يشيدوا مرابع أمنية أو قواعد عسكرية محرَّمة عليهم. ومنها ثانياً، أن "تسامح" المجتمع الدولي مع إسرائيل، لا يختلف، إلا بالأسلوب ربما، عن سكوته على جرائم بشار تجاه شعبه.
الآن، الاختلاف بين القضيتين: الأولى قديمة، عمرها من عمر النكبة، المتجدِّدة بـ"النكسة".
أبناؤها هجّوا إلى أقاصي الدنيا في وقتٍ كانت الحدود رحبة، مفتوحة. المناخ العالمي وقتذاك يترقب الأفضل، بعد خروجه منتصراً ضد ألمانيا النازية. المجتمع المدني الغربي شبه خالٍ من العنصرية وفوبيا اللاجئين والإسلام، فضلاً عن اليمين المتطرّف. في منطقتنا كانت كلمة "ثورة" تقترن أوتوماتيكيا بدعم القضية الفلسطينة. لم يكن للثورة معنى خارجها. والعدو وقتها كان واحدا: الإمبريالية الأميركية وحليفتها إسرائيل. وفلسطين تحتلها دولة واحدة، أو مشروع واحد هو الصهيونية، القائل بإنشاء دولة يهودية على أنقاض فلسطين التاريخية.
وإذا عرف ذاك الماضي إرهاباً، فكان من صميم الثقافة الانتفاضية الماركسية، أو بالأحرى أحد تفسيراتها؛ إرهاب منه وفيه، ليس خارجاً عن الثقافة الغربية أو منسلخاً عنها. مناخ العرب لم يكن مختلفاً. مثلاً، العراق القومية استقبلت حينها اللاجئين الفلسطينيين ومنحتهم حقوقاً معيشية (تعليم صحة إعفاءات جمركية). كان عددهم قبل الغزو الأميركي أربعين ألفاً. وها هي السلطة المذهبية التي استولت على مقدّرات العراق من بعد الغزو، تجرّدهم من هذه الحقوق، بعدما أمعنت مليشياتها بقتلهم بحجة أنهم "عملاء لصدام حسين"... في العام 2006، عام "الانتصار الإلهي الاستراتيجي على إسرائيل" على يد المليشيات الحليفة للجماعات المذهبية العراقية، تتعرّض ثلاثمئة عائلة فلسطينية مقيمة في بغداد للطرد من منازلها... الآن، عدد الفلسطينيين العراقيين يبلغ ثمانية آلاف وحسب.
تبدلت الأمور منذ تلك الحقبة التي يمكن وصفها بـ"الذهبية". المقتلة السورية تحصل في مناخ عالمي متلبّد. في تراجع الأمل الديمقراطي. في تعقّد القضية السورية. في تعدّد جنسيات المحتلين أرضها، أو الطامعين بها، من دول ومليشيات تابعة لها. في انتشار الإرهاب على أرضها وخارجها، وفي ذكاء التذرُّع به وتوظيفه، وتفضيل فرعه الشيعي على فرعه السني. ثم في الفرق بين الصهيونية التي تطرد أهل البلاد لتُسكن فيها غيرهم من المهاجرين اليهود وروسيا مثلا التي لا يتوانى كبار عساكرها عن الإعلان أن عملياتها العسكرية ضد السوريين العزّل تستهدف "قتل الفائض من البشر" و"تجريب أسلحة جديدة". أو إيران، مع المشتغلين تحت قيادتها التي تتذرّع تارة بالأمكنة المقدسة، وتارة أخرى بمحاربتها الإرهاب، أو التكفيريين، أو بنصرتها القضية الفلسطينية، لتمارس التطهير المذهبي. تقتل شعبا عربياً، تساهم بالإبقاء على قاتله، وتقول إن تلك هي الطريق نحو فلسطين.
الأهم من ذلك كله أن وطنيتنا أصبحت وطنية رثّة. على غرار البروليتاريا الرثّة التي وصفها كارل ماركس في كتابه "الثامن عشر من برومير". مثل البروليتاريا الرثة، وهي جزء من البروليتاريا التي لا تمتلك أية موارد، والتي تتسم بغياب وعيها. يقول ماركس، عن هذه
الطبقة، إن الغوغائي لويس نابوليون، شقيق نابوليون بونابارت ووريثه، ما كان يمكن له أن يصعد إلى السلطة، لولا دعم البروليتاريا الرثّة، المكوّنة من متشرّدين وشحاذّين ونصّابين وغشاشين وغجر... أي كتلة هلامية من الرعاع تتمايل على وقع المزايدات والصيحات الديماغوجية.
كانت وطنيةً شغوفةً وأصبحت الآن رثة. وهذا يعود أيضا إلى تساقط الطبقة الوسطى العربية، وتحول شرائح منها إلى "بروليتاريا" رثّة. تناقصت مواردها، فانخفض معها وعيها بمصالحها. وتضاءل وعي نخبها مثلها. تؤجّج نيراناً لا تعرف كيف تطفئها. والنتيجة أمامنا: دمار على كل الجبهات، وموت موزّع بقسطاط، أكثره سيلانا هو الدم السوري والفلسطيني. فما أن أعلن ترامب قراره بخصوص القدس، حتى تدفقت ملايين الألسنة "زحفا إلى القدس". وكانت خبطات إعلامية لبشار الأسد، يتنشَّق شيئاً من عبيرها ليغسل عار قتله شعبه وإذلاله على يد بوتين، الرجل الذي أحسن إليه بأن حمى عرشه، فبدا للعين المجرّدة أن ثمّة تناقضا "وطنيا" بين قضيتي سورية وفلسطين. نخبة رثّة تعرف تماما أنها تتوجه نحو "قواعد" أكثر رثاثةً منها.
أنظر إلى جديد الأمثلة: وزير الخارجية اللبناني، الحليف الوثيق لـ"الممانعة"، الذي تفوًّق على كبار الديماغوجيين العرب، في خطابه عن القدس، في أثناء اجتماع وزراء الخارجية العرب أخيراً، يعود في مقابلة تلفزيونية فيعلن أن القضية مع إسرائيل "ليست أيديولوجية"، أإنه يريد "أن تعيش كل الشعوب بأمان ويعترف بعضها بالبعض الآخر". وهذا وزير هو من حصة الجماهير الذاهبة "إلى القدس بالملايين"، والجماهير الأخرى الحليفة التي ترفض إلقاء السلاح المصوَّب ضد السوريين، بحجة أنها تحتفظ به لـ"تحرير كل فلسطين"، ليس أقل من ذلك.
مع أن الاثنتين لا تخلوان من نقاط تشابه، باتت معروفة. أهمها: أن سورية بلد عربي مثل فلسطين. وهذه ليست أقل النقاط أهمية. فإذا نظرتَ إلى اللوحة بمجملها، يمكنك القول إن ما يتعرّض له شعباهما مترابط مع مصائر العرب جميعاً: المحرومين من تقرير وجهة حياتهم، والغارقين في سراب تلاعب الكبار والمتوسطين، وحتى الصغار، بمصيرهم. ومنها، أيضاً، أن طرد الفلسطينيين من أرضهم، وتمليكها للمهاجرين اليهود الآتين من بقع الدنيا، هو صنو طرد السوريين من سورية، وداخلها، لصالح "أصدقاء بشار" أو "مجاهدين"، جاءوا من أصقاع الدنيا لييصادروا ممتلكات السوريين وأرضهم، أو يشيدوا مرابع أمنية أو قواعد عسكرية محرَّمة عليهم. ومنها ثانياً، أن "تسامح" المجتمع الدولي مع إسرائيل، لا يختلف، إلا بالأسلوب ربما، عن سكوته على جرائم بشار تجاه شعبه.
الآن، الاختلاف بين القضيتين: الأولى قديمة، عمرها من عمر النكبة، المتجدِّدة بـ"النكسة".
وإذا عرف ذاك الماضي إرهاباً، فكان من صميم الثقافة الانتفاضية الماركسية، أو بالأحرى أحد تفسيراتها؛ إرهاب منه وفيه، ليس خارجاً عن الثقافة الغربية أو منسلخاً عنها. مناخ العرب لم يكن مختلفاً. مثلاً، العراق القومية استقبلت حينها اللاجئين الفلسطينيين ومنحتهم حقوقاً معيشية (تعليم صحة إعفاءات جمركية). كان عددهم قبل الغزو الأميركي أربعين ألفاً. وها هي السلطة المذهبية التي استولت على مقدّرات العراق من بعد الغزو، تجرّدهم من هذه الحقوق، بعدما أمعنت مليشياتها بقتلهم بحجة أنهم "عملاء لصدام حسين"... في العام 2006، عام "الانتصار الإلهي الاستراتيجي على إسرائيل" على يد المليشيات الحليفة للجماعات المذهبية العراقية، تتعرّض ثلاثمئة عائلة فلسطينية مقيمة في بغداد للطرد من منازلها... الآن، عدد الفلسطينيين العراقيين يبلغ ثمانية آلاف وحسب.
تبدلت الأمور منذ تلك الحقبة التي يمكن وصفها بـ"الذهبية". المقتلة السورية تحصل في مناخ عالمي متلبّد. في تراجع الأمل الديمقراطي. في تعقّد القضية السورية. في تعدّد جنسيات المحتلين أرضها، أو الطامعين بها، من دول ومليشيات تابعة لها. في انتشار الإرهاب على أرضها وخارجها، وفي ذكاء التذرُّع به وتوظيفه، وتفضيل فرعه الشيعي على فرعه السني. ثم في الفرق بين الصهيونية التي تطرد أهل البلاد لتُسكن فيها غيرهم من المهاجرين اليهود وروسيا مثلا التي لا يتوانى كبار عساكرها عن الإعلان أن عملياتها العسكرية ضد السوريين العزّل تستهدف "قتل الفائض من البشر" و"تجريب أسلحة جديدة". أو إيران، مع المشتغلين تحت قيادتها التي تتذرّع تارة بالأمكنة المقدسة، وتارة أخرى بمحاربتها الإرهاب، أو التكفيريين، أو بنصرتها القضية الفلسطينية، لتمارس التطهير المذهبي. تقتل شعبا عربياً، تساهم بالإبقاء على قاتله، وتقول إن تلك هي الطريق نحو فلسطين.
الأهم من ذلك كله أن وطنيتنا أصبحت وطنية رثّة. على غرار البروليتاريا الرثّة التي وصفها كارل ماركس في كتابه "الثامن عشر من برومير". مثل البروليتاريا الرثة، وهي جزء من البروليتاريا التي لا تمتلك أية موارد، والتي تتسم بغياب وعيها. يقول ماركس، عن هذه
كانت وطنيةً شغوفةً وأصبحت الآن رثة. وهذا يعود أيضا إلى تساقط الطبقة الوسطى العربية، وتحول شرائح منها إلى "بروليتاريا" رثّة. تناقصت مواردها، فانخفض معها وعيها بمصالحها. وتضاءل وعي نخبها مثلها. تؤجّج نيراناً لا تعرف كيف تطفئها. والنتيجة أمامنا: دمار على كل الجبهات، وموت موزّع بقسطاط، أكثره سيلانا هو الدم السوري والفلسطيني. فما أن أعلن ترامب قراره بخصوص القدس، حتى تدفقت ملايين الألسنة "زحفا إلى القدس". وكانت خبطات إعلامية لبشار الأسد، يتنشَّق شيئاً من عبيرها ليغسل عار قتله شعبه وإذلاله على يد بوتين، الرجل الذي أحسن إليه بأن حمى عرشه، فبدا للعين المجرّدة أن ثمّة تناقضا "وطنيا" بين قضيتي سورية وفلسطين. نخبة رثّة تعرف تماما أنها تتوجه نحو "قواعد" أكثر رثاثةً منها.
أنظر إلى جديد الأمثلة: وزير الخارجية اللبناني، الحليف الوثيق لـ"الممانعة"، الذي تفوًّق على كبار الديماغوجيين العرب، في خطابه عن القدس، في أثناء اجتماع وزراء الخارجية العرب أخيراً، يعود في مقابلة تلفزيونية فيعلن أن القضية مع إسرائيل "ليست أيديولوجية"، أإنه يريد "أن تعيش كل الشعوب بأمان ويعترف بعضها بالبعض الآخر". وهذا وزير هو من حصة الجماهير الذاهبة "إلى القدس بالملايين"، والجماهير الأخرى الحليفة التي ترفض إلقاء السلاح المصوَّب ضد السوريين، بحجة أنها تحتفظ به لـ"تحرير كل فلسطين"، ليس أقل من ذلك.