القضية الفلسطينية ومخاطر التصفية

04 يناير 2018
+ الخط -
تبلورت، في أواخر القرن التاسع عشر، الحركة الصهيونية العالمية، وتم عقد أول مؤتمر يهودي عالمي في مدينة بازل السويسرية، برئاسة المحامي النمساوي تيودور هيرتزل، (29 - 31 أغسطس/ آب 1897)، وكان قد سبق له تأليف كتاب باسم الدولة اليهودية. وكان يدعو إلى إقامة دولةٍ لليهود، وعدم اندماجهم في المجتمعات التي يعيشون فيها في غرب أوروبا وشرقها. وكان أهم ما أسفر عنه المؤتمر الاتفاق على إقامة الدولة العبرية على أرض فلسطين، باعتبارها أرض إسرائيل، واختاروا لها الاسم نفسه (إسرائيل)، واختير هيرتزل أول رئيس للمنظمة الصهيونية العالمية. واستغرق الأمر خمسين عاماً ما بين عقد المؤتمر الصهيوني الأول مع الاتفاق على إقامة الدولة اليهودية على أرض فلسطين باعتبارها "إيرتز إسرائيل"، وإعلان قيام الدولة بالفعل في مايو/ أيار 1948. وكان هيرتزل نفسه قد قدّر، في مذكراته التي كتبها في العام 1898، أن الأمر قد يستغرق ذلك الوقت، وأن العالم قد يشهد قيام دولة إسرائيل بعد خمسين عاماً.
السؤال هنا: كيف تحقّق ذلك الحلم الصهيوني؟ وللوصول إلى الإجابة الصحيحة، يلزم استرجاع المشهد التاريخي، وحال فلسطين في ذلك الوقت، من أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، مجموعة من الولايات والمتصرفيات الخاضعة للسيادة العثمانية، والتي تعاني من الفقر والجهل والإهمال وسوء الإدارة. بينما العالم العربي، بأقطاره وأقاليمه المختلفة، تابع للسيادة العثمانية اسماً وشكلاً، بينما هو تحت الاحتلال الأوروبي (بريطاني/ فرنسي/ إيطالي) فعلاً، ودولة الخلافة العثمانية كانت تُلقب بالرجل المريض، وهي في أضعف حالاتها، وتكاد تلفظ أنفاسها الأخيرة.
ذلك كان المشهد الذي تحرّكت فيه المنظمة الصهيونية العالمية، ووكالتها اليهودية، مدعومة من الغرب بكل قواه، خصوصا بعدما انهارت دولة الخلافة العثمانية، إثر هزيمتها في الحرب
 العالمية الأولى، وفرض الهيمنة الاستعمارية كاملة على المنطقة العربية، ثم جاءت الحرب العالمية الثانية التي انتهت بانتصار الحلفاء الذين قدموا للوكالة اليهودية الجائزة الكبرى بقرار تقسيم فلسطين بين العرب واليهود (قرار الأمم المتحدة 181 في 29 نوفمبر/ تشرين الثاني 1947)، ثم الاعتراف بدولة إسرائيل فور إعلان قيامها في 15 مايو/ أيار 1948، في اليوم التالي لانتهاء الانتداب البريطاني على فلسطين. والقصة بعد ذلك معروفة، مشهد عربي بائس، ينتقل من هزيمة إلى هزيمة، ومن نكبة 1948 إلى نكسة 1967، ثم إلى وكسة الاعتراف، والتطبيع، والعلاقات مع دولة إسرائيل.
هذا عن المشهد العربي، أما المشهد الإسرائيلي فقد كان مختلفاً. لم يتوقف الحلم الصهيوني عند حدود قرار التقسيم، ولا حدود هدنة 1948، لكنه أراد حدود نكسة 1967. كل فلسطين التاريخية من البحر إلى النهر، تضم الضفة الغربية (يهودا والسامرة) والقدس الشريف، وهضبة الجولان السورية المحتلة، لتأمين النقب ومستوطناته، مع ضمان تأمين جبهة سيناء، عبر معاهدة السلام المصرية والتنسيق الأمني، وجنوب لبنان بحكم الأمر الواقع. أما الفلسطينيون فيبقى لهم الفُتات، فلسطينيو الداخل ما بين مجموعة كانتونات في الضفة الغربية، بعد استقطاع المستوطنات منها، والتي يُعدُّون قانوناً لضمها رسميا لكيان الدولة العبرية، وقطاع غزة المحاصر، وفلسطينيو الخارج ما بين مخيمات اللجوء في الأردن وسورية ولبنان، وبين الشتات في الأرض. ذلك هو ما وصل إليه اليوم حال ما اصطلحنا على تسميتها القضية الفلسطينية.
بنظرةٍ واعيةٍ على المشهد العربي، والإقليمي، والدولي، وانعكاسه على تلك القضية، لا بد أن نستشعر الخطر القادم، المتمثل في الفصل الأخير للمشروع الصهيوني الكبير، والذي لن يجد من يتصدّى له من أصحاب القضية، بعد أن استكمل فصوله السابقة، والتي بدأت بترسيخ وجوده على الأرض الفلسطينية، ثم إقامة كيان الدولة العبرية باسم إسرائيل على أكثر من نصف أرض فلسطين، ثم احتلال كامل أرض فلسطين التاريخية، وتأمين المحيط الخارجي لها باحتلال أراضٍ في الأردن وسورية ولبنان وتأمين جبهة مصر في سيناء بمعاهدة سلام. وعلى المستوى السياسي، أصبح وجود دولة إسرائيل مقبولا، بمقتضى اتفاقيات تعاقدية مع ثلاثة أطراف، مصر والأردن ومنظمة التحرير الفلسطينية، وبمقتضى تفاهمات عرفية، وتطبيعية، مع معظم الدول العربية.
ماذا بقي لذلك المشروع سوى الفصل الأخير، وهو تصفية القضية الفلسطينية من جذورها. يعيش فلسطينيو الضفة الغربية في كانتونات منفصلة، ويمكنهم الدخول في إطار كونفيدرالي مع الأردن. أما القدس فلا تفاوض عليها، ولا حديث حولها، وهو ما أقرّه لهم ترامب أخيراً، وقطاع غزة يمكن أن يكون دويلةً فلسطينيةً قابلةً للتوسع نسبيا فى إطار اتفاق تبادل أراض مصرية إسرائيلية. أما فلسطينيو الخارج فيبقون في مخيمات اللجوء في الأردن وسورية ولبنان، أو في الشتات في أنحاء الأرض.
بداية بالمشهد العربي، توارت القضية الفلسطينية تماماً، ولم تعد مطروحة على أي من أجنداته. وعندما طُرحت قضية القدس، أخيرا، بمناسبة قرار الرئيس ترامب اعتبار القدس عاصمة
 لإسرائيل، وإصداره أمراً بنقل السفارة الأميركية إليها، كان رد الفعل بائساً تماماً، حتى بدا وكأن القوم لا يعنيهم الأمر، ناهيك عن حالة الخلاف والتمزّق والتشرذم العربي، والصراعات العربية - العربية في الخليج واليمن والسودان وليبيا وغيرها. وانشغال كل دولة عربية بشؤونها الداخلية إلى حد الإغراق في مشكلاتها. أما عن العلاقات مع العدو الإسرائيلي، فهناك حالة من التماهي الغريب مع النُظم العربية، بحجة أن هناك عدوا مشتركاً للطرفين، هو إيران.
ولا يقلّ المشهد الإقليمي بؤساً في ما يتعلق بالقضية الفلسطينية. الداعمان الرئيسيان لها، وهما إيران وتركيا، منشغلان تماماً في قضايا ومشكلات داخلية وخارجية لا تنتهي. ولعل جديدها ما يجري في إيران من اضطرابات داخلية، وما جرى في تركيا من محاولة انقلاب فاشلة، ومشكلات خاصة بالموقف في سورية، والموقف في قبرص. والمشهدان، الإقليمي والعربي، يشكلان قيودا هائلة على المقاومة الفلسطينية التي تجد نفسها محاصرة، ومعزولة، ومحرومة من الدعم الذي يمكنها من مواصلة دورها في إعاقة استكمال المشروع الصهيوني.
المشهد الدولي، وعلى قمته الولايات المتحدة الأميركية، والتي أعطت الضوء الأخضر للكيان الصهيوني لاستكمال مشروعه، عبر قرار ترامب الخاص بالقدس، وعبر ما تم طرحه عن صفقة القرن، والتي لم يتم الكشف عن تفاصيلها. أما باقي الدول فمعروفٌ أن مواقفها لن تتجاوز المجاملات الدبلوماسية والنصائح الإنسانية.
ويبقى السؤال الأهم: في ظل تلك المشاهد، هل ستمضي إسرائيل في تنفيذ مشروعها الصهيوني بتصفية القضية الفلسطينية، بينما يبقى حكام العرب مشغولين بتصفية حساباتهم القبلية، ويرفعون شعار "الحرب على الإرهاب"، ويأملون في وهم الربيع الإيراني المنتظر.
2FABA6BB-F989-4199-859B-0E524E7841C7
عادل سليمان

كاتب وباحث أكاديمي مصري في الشؤون الاستراتيچية والنظم العسكرية. لواء ركن متقاعد، رئيس منتدى الحوار الاستراتيجى لدراسات الدفاع والعلاقات المدنية - العسكرية.