القضاء في مصر: غير لائق اجتماعياً

31 أكتوبر 2014

دار القضاء العالي في القاهرة (22 سبتمبر/2014/أ.ف.ب)

+ الخط -

لا زلت أتذكر تلميذي، عبد الحميد شتا، خريج كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، حينما اجتاز كل الاختبارات المؤهلة لمسابقة التمثيل التجاري، إلا أنه، عند ظهور نتائج التوظيف، كُتبت ملاحظة تذكر أنه "غير لائق اجتماعياً". بدت هذه العبارة الصادمة لتنال من مواطنية هذا الطالب الذي اجتهد، وتفوق، واستطاع أن يجتاز كل متطلبات التأهيل، حتى يتمتع باللياقة المهنية، وما تشترطه من مؤهلات ومهارات، كانت هذه العبارة التي ألقيت، في وجهه، عند إعلان كشوف النتائج، بمثابة قضاء على مستقبل هذا الطالب النابغ.

وحينما تفحص الأمر، كانت الأسباب أن والده فلاح أجير، وهو ما دفع هؤلاء أن يقرروا في شأنه بهذه العبارة القاتلة، فقتلوا أمله ووأدوا مستقبله، ما بين الأمل الفسيح الذي كان يعمل له والإحباط واليأس المقيم الذي وقع عليه كالصاعقة، يستبعده. وقد كان يأمل، بعلمه وتعلمه، بمهاراته وتقدمه، أن يشكل ذلك مدخلاً لترقيه الوظيفي وحراكه الاجتماعي، لكنهم أوصدوا الباب في وجهه، حينما قتلوه، بأن الطالب غير لائق اجتماعياً لهذه الوظيفة، على الرغم من كل ما بذل من جهد وقدم من اجتهاد. بين هذا وذاك، كانت لحظة قتل الأمل ووصد أبواب المستقبل، وقع ذلك كله مصيباً إياه في مقتل، دفعوه دفعاً إلى قتل نفسه، وحركوه نحو أسوأ قرار له، بما ينهي حياته.

استحضرت القصة، بما تنطوى عليه من مسائل شديدة الخطورة، بعضها يتعلق بمعاني الإنسانية، وبعضها الآخر يقترن بحقوق المواطنة، وكثير منها يرتبط بقواعد الجدارة والاستحقاق، صدمته الكبرى بمعايرته بأبيه لفقره ومهنته، وذلك كله حينما يجتمع عليه اجتماع اللئام، فتقوم مؤسسات الإدارة والدولة بقرارها ومرارها بإلجاء بعض النفوس إلى مساحات الانتحار، وقتل النفس من غير خيار، بسبق ترصد وإصرار.

تحركت كل هذه المعاني، حينما قرأنا أخباراً بدأت تنشر، وتنتشر هنا وهناك، حول تظلمات الأوائل والمتفوقين المصريين في كليات الحقوق في جامعات بلدهم، لعدم تعيينهم في مسابقات الالتحاق بالنيابات، وبدت الأمور تحرك مساحات الاحتجاج، مؤكدة على الأحقية والاستحقاق، إلى أن نشرت الصحف أن مجلس القضاء الأعلى قرر عدم قبول أبناء العمال والفلاحين ضمن هذه الوظائف في سلك القضاء. كان هذا الخبر تعبيراً عن حالة عنصرية وشعوبية، ولم تجد من القضاة تفسيراً أو تبريراً. واقترن ذلك كله بأنباء تعيين أبناء القضاة، باعتقاد جازم أن ذلك من صميم حقهم، وضمن مسارات التوريث في المؤسسات.

وهنا، فإن بعضهم قد يتحدث عن الوظائف في السلك السياسي، أو التجاري، أو القنصلي، بهذا الاعتبار، كوظائف طبقية، أو مستويات معيشية ذات طابع خاص، وهو أمر لا يمكن قبوله، لكن الأخطر، في هذا المقام، أن يأتي ذلك من "مؤسسة العدالة ذاتها، حينما تخرج عن كل قواعد العدالة"، وتكافؤ الفرص والمساواة في المواطنة، وتولي الوظائف ضمن معايير الجدارة والكفاءة والاستحقاق.

هل مؤسسة العدالة في مصر، حينما تتحدث عن استبعاد فئة كبيرة من أبناء هذا الشعب، لأسباب تتعلق بمهنة الوالدين، أو بمؤهلاتهما، يجعل منها مؤسسة مؤتمنة على إقامة العدل والحكم بالإنصاف، حينما يحتكم إليها الناس؟ لا شك أن الإجابة على هذا التساؤل تقع في بطن القاضي المتوج في مجلس القضاء الأعلى، حينما أصدر القرار من غير سند من القانون أو من الواقع، إلا أن تبتدع هذه المؤسسة معايير ليست بالميزان القسط أو موازين العدل، وهي التي تشكل مرفقاً للعدالة، والمنوط بها إقامة العدل والإنصاف، فتستند مناقضة لذلك إلى معايير الظلم والإجحاف.

كيف يمكن، في هذا المقام، أن نسوغ لهؤلاء إجحافاً، على الرغم مما تحمله الدساتير من أعراف ومواد، تقر معنى تكافؤ الفرص والمساواة في الحقوق والواجبات، وتؤكد على معاني المواطنة الكاملة والشاملة لكل أحد، من دون تفرقةٍ، بسبب الجنس أو الدين أو اللون أو الطبقة؟، لا شك أن هذا يعد انحرافاً يهدم ميزان العدل والإنصاف وقواعد التسوية بين الناس، بلا خلاف أو اختلاف. وفي هذا الإطار، علق أحد قضاة محكمة النقض، أعلى درجات التقاضي التي تصدر الأحكام القاطعة والنهائية الجامعة، يقول كيف يمكن لابن عامل نظافة أن يدخل سلك القضاء؟! مستغرباً ومستنكراً. وبعد أيام، أصدر محافظ الجيزة إعلاناً يطلب فيه أصحاب المؤهلات للقيام بأعمال النظافة، وحينما سأل بعضهم، أهذا ما يليق بأصحاب المؤهلات؟، قيل إن "الشغل مش عيب".

أقول لهؤلاء الذين يتعاملون بالقطعة مع المواطن المصري، حينما يمنعونه ويحرمونه من وظيفة قضائية، بسبب مهنة الوالد، ثم يُرغِبون الشباب في العمل بالوظائف ذاتها، لأن العمل ليس عيباً، أليست هذه خدعة كبرى، تمارسها أجهزة الإدارة والدولة، حينما تهدر الحقوق، بسبب مهنة الوالد؟ وتجعل من ذلك معياراً لتولي وظائفها، مما تعتقد أنه من الوظائف الراقية؟

أقول لكل هؤلاء، من أول وأكبر قاضٍ إلى أصغر موظف في سلك القضاء، دعنا نوافقكم الرأي، ونستبعد كل أبناء العمال والفلاحين، على أن يكون ذلك بعد دراسة خرائط من يعمل فعلياً في مرفق القضاء، فاحصين ملفاتهم جميعاً، ومن دون استثناء التي تتعلق بوظائف الوالدين، ويتم إقصاء أبناء العمال والفلاحين، طالما يعمل فى سلك القضاء، أقول، وبصدق، وأصرخ وبحق، أهؤلاء الذين يعملون جميعاً في سلك القضاء المصري ولدوا من نسل الباشاوات أو البكوات؟ لعمري إنهم يتناسون أصولهم، ويتغافلون عن كل معيارٍ يتعلق بأصول العدالة في تولي وظائفهم، حسب حديث الدرجات ومعايير الكفاءات، لا حديث الطبقات وكل ابتداعات تقوم على عنصريات.

ودعونا، إذن، أن نتحدث عن أكبر منصب في الدولة المصرية، وهو رئاسة الجمهورية، لنؤكد كل هؤلاء وبتلك المعايير "غير لائقين اجتماعياً" لتلك الوظيفة، وذلك منذ عهد عبد الناصر، ومروراً بالسادات وحسني مبارك ومحمد مرسي وحتى المنقلب الرئيس السيسي. دعونا إذاً نقول إن مرفق العدالة يهدم أصول العدالة، حينما تقوم الجهة الأعلى به، بقرار يصطدم مع كل عرف، ومع كل قانون، ومع كل قاعدة دستوريةٍ، تؤكد على معايير التسوية والإنصاف والاستحقاق.

يا قضاة الإنصاف: كلكم غير لائقين اجتماعياً، اعدلوا هو أقرب للتقوى.

ECE602C0-DB35-414B-9572-17B675CE3C2A
سيف الدين عبد الفتاح

كاتب وباحث مصري، مواليد 1954، أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة، من مؤلفاته "في النظرية السياسية من منظور إسلامي"، و" التجديد السياسي والواقع العربي المعاصر.. رؤية إسلامية".