القبائل الليبية.. جزء من المشكلة أم وسيلة للحل؟

07 اغسطس 2018
+ الخط -
كانت القبيلة، ولا تزال، تلعب دورا مهما في تشكيل المشهد الليبي، سياسيا وديمغرافيا، فالانتماء إلى القبيلة والارتباط الوثيق بها لا يزال عميقا وغائرا في هذا المجتمع، ولا يزال ليبيون كثيرون يشعرون بالفخر بانتمائهم للقبيلة، بل ويرون أن أي حل للمشكل الليبي لن يكتب له النجاح، ما لم يكن مبنيا على تفاهم قبلي، يفرض تطبيقه على أرض الواقع.
وقد استغل نظام معمر القذافي الذي استطاع فرض حكمه وسيطرته على ليبيا 42 سنة، وباقتدار، هذا العنصر، وأتقن العزف عليه، وجعله عاملا وسلاحا قويا، استغله لتثبيت أركانه، وكلف من أجل ذلك كثيرين من رموزه الذين لهم دراية بتاريخ القبائل الليبية لتولي هذه المهمة. وقد نجحوا في ذلك إلى أبعد الحدود، باستقطاب القبائل التي لها ثقل داخل المجتمع، وتقريبها منه، وتعيين أفراد منها وزراء وسفراء، وجند منهم أعدادا كبيرة جنودا وضباطا في كتائبه الأمنية، مغدقا عليهم العطايا والمزايا، بما يضمن ولاءهم وولاء قبائلهم له. ومثلما شجع اعتماد الليبيين على قبائلهم لتحصيل حقوقهم، أو فوزهم بوظيفة مرموقة، فقد استخدمها، في الوقت نفسه، لتسليط العقاب على معارضيه، من خلال إرغام القبائل على التبرؤ ممن عارضوه، وجعلهم منبوذين داخل قبائلهم، بل وطردهم، هم وعائلاتهم، ورفض دفن أمواتهم داخل مقابر 
القبيلة، وجعل هذه القبائل تتسابق إلى تقديم وثائق العهد والمبايعة التي كان النظام يحرض عليها، ويوليها أهمية بالغة.
وقد انعكس اهتمام النظام بالقبيلة في سعي عديدين من شيوخها إلى كسب ود قبيلة القذاذفة التي ينتمي إليها القذافي، محاولين البحث في أغوار التاريخ، علهم يجدون أي نوع من التضامن أو التقارب، أو ما يعرف باللهجة الليبية "الصف" أو "الخوايا" بين قبيلتهم وهذه القبيلة، ما سيضمن لهم امتيازات ومناصب عديدة، كانت توزع حسب أهميتها، بناء على الولاء والقرب من قبيلة القذاذفة أو غيرها من القبائل المحسوبة على النظام. وقد أدت تلك الجهود إلى تشكيل خريطة الولاءات والانتماءات، وتم بناء عليها رسم الاستراتيجيات التي تضمن بقاء هذا النظام من خلال هذه القبائل.
وفي السياق نفسه، بما يخدم هذه المصلحة أيضا، تولى كتّاب ظهروا فجأة في تلك الفترة، وبايعاز من النظام، وبدعم مالي وقبلي، تأليف كتبٍ كثيرة تناولوا فيها دور القبائل الليبية في جهادها ضد المستعمر الايطالي، مدحا أو قدحا، حسب موقف تلك القبيلة من النظام، وحسب التعليمات الصادرة إلى هؤلاء الكتاب، مزوّرين حقائق كثيرة، ومسيئين إلى قبائل كثيرة، حاولوا طمس تاريخها الجهادي المشرّف، عقابا لها على موقفٍ معيّن، فسّره النظام بأنه خارج عمّا يريد ويهوى. وقد أدى ذلك إلى تكريس الفرقة القبلية، وتوزيع المناصب والامتيازات والنفود بناء على الثقل القبلي، والولاء العشائري، جاعلا الحقد والكراهية سمةً مميزةً، تحكم علاقات قبائل كثيرة.
سقط القذافي وانهار نظامه سنة 2011، ودخلت ليبيا في فراغ سياسي شامل، فلا دستور يمكن الاحتكام إليه، ولا مؤسسات سياسية أو خدمية أو أمنية معتبرة، ويمكن الاعتماد عليها في تسيير البلاد وشوؤنها، ما أدى إلى ظهور دور القبيلة، وبقوة من جديد، للقيام بالدور السياسي والخدمي والأمني، بما يمكّنها من الدفاع عن نفسها، وعن أراضيها التي تعيش عليها من خلال تشكيل مليشيات قبلية تحت مسمى "المجالس العسكرية"، ضمت في أغلبها من اشتركوا في إطاحة نظام القذافي، والذين استطاعوا الحصول على كمياتٍ معتبرة من الأسلحة، غنائم من كتائب القذافي ومعسكراته الأمنية، أو مساعدات من دول اجنبية كان لها دور رئيس في إطاحة النظام.
وظلت القبيلة بعد "فبراير 2011"، لاعبة الدور المهم نفسه الذي كانت تلعبه، حيث تخندقت وراء مليشياتها ومجالسها العسكرية، واستغلت من بعض أفرادها لتحقيق مصالح ومنافع شخصية وعائلية. ونتيجة للفراغ الأمني الذي تلا الانتفاضة، دخلت قبائل ليبية عدة في مواجهات وحروب مع قبائل أخرى، خصوصا التي كان هنك عداء تاريخي بينها، إما بسبب الأرض أو بسط النفوذ أو غيرها من الأسباب. وكان هذا الصراع، في غالبه، امتدادا لحروب قبلية قديمة. ولعل اقتحام مدينة بني وليد في سنة 2011، وتزعّم مصراتة ذلك الاقتحام، والحرب بين أولاد سليمان والقذاذفة في الجنوب، ما يدل دلالة واضحة على العمق التاريخي لهذه الحروب، مع ملاحظة أن الاصطفافات السياسية والأيديولوجية لعبت دورا مهما أيضا في كثير منها، فعلى سبيل المثال أدّى اصطفاف كل من ورشفانة والزاوية إلى فرق سياسية وأيديولوجية مختلفة إلى سقوط ضحايا كثيرين من الطرفين، في سابقة خطيرة هدّدت النسيج الاجتماعي المترابط والمتداخل بينهما.
في الغرب الليبي، وبالتحديد على جبله غير البعيد من العاصمة طرابلس، لم يخل الأمر من مشكلات قبلية ظهرت على السطح، وكانت كغيرها انعكاسا للحالة الأمنية المتردّية، وكذلك المشكلات التاريخية بين قبائل عديدة هناك، إلا أن حكمة شيوخ القبائل في هذه المناطق لعبت دورا إيجابيا في حلحلة مشكلات ومصاعب كثيرة، تأجّجت، خصوصا نتيجة اصطفافات هذه القبائل في "أحداث فبراير" مع نظام القذافي أو ضده. ولعل ما حصل من تفاهم بين قبيلتي الزنتان والمشاشية يأتي محصلة لهذه الحكمة، حيث وافقت الأولى على رجوع الثانية إلى أراضيها، موقعين اتفاقيات عدم الاعتداء وحسن الجوار، وتكليف لجنة مشتركة بينهما، تتولى النظر في كل المشكلات العالقة أو اللاحقة.
أما وجود الجنرال خليفة حفتر في المنطقة الشرقية، وانتهاجه طريقة القذافي نفسها في شراء الولاءات القبلية، خصوصا ذات الثقل الاجتماعي، جعل لهذه المنطقة خصوصيةً تختلف عن باقي المناطق الليببية، فعندما فشل حفتر، في انقلابه الذي أعلنه في 14 فبراير/ شباط 2014، والذي أعلن فيه سيطرته على مقرّات حكومية داخل العاصمة طرابلس، وتجميد عمل "المؤتمر الوطني العام"، ذلك الانقلاب الذي لم يتجاوز الشاشات التي أعلن من خلالها، ولم يرتق حتى إلى مجرد محاولة الانقلاب، الأمر الذي جعله يغادر إلى المنطقة الشرقية، محاولا شراء ود شيوخ قبائلها، وإظهار نفسه شخصية توافقية تحارب الإرهاب في المنطقة، مستغلا الفوضى الأمنية هناك، واننتشار الاغتيالات والقتل والتفجيرات التي أرهقت الناس. هذه الظروف جعلت معظم قبائل المنطقة الشرقية الكبيرة، مثل قبائل العواقير والمغاربة والعبيدات، تدعم حفتر، خصوصا في بداية حربه التي سمّاها عملية الكرامة، إلا أنه، ومن الملاحظ الآن، أن كثيرا من هذه الولاءات أصبحت أكثر هشاشة، بعد أن اكتشفت أغلب القبائل أن الهدف الخفي من كل هذه الحروب هو الوصول إلى السلطة، وبناء مجد شخصي يمهّد للحكم، وقد دفعت هذه القبائل فواتيره الباهظة من أبنائها الذين شاركوا في هذه الحروب، وأن الصراع الذي خالته حربا ضد الإرهاب تحول من صراع أيديولوجي إلى صراع ونزاع قبلي لتولي المناصب والسلطات.
أما جنوب ليبيا، فإن وجود آبار النفط وحقوله فيها جعل منها منطقةً ذات بعد سياسي، وبعد اقتصادي يتمثل في الاستفادة المادية والمبالغ الطائلة من الحكومات المتعاقبة التي صرفتها، بدون حسيب أو رقيب، من أجل حراسة هذه المنشآت. ويتمثلا البعد السياسي في الضغط على الحكومة، من خلال قفل صمامات النفط أو التلويح به، لكسب مزايا أو مكاسب لهذه القبيلة، وقد أدت هذه المزايا إلى صراع مسلح بين التبو والطوارق عام 2014، ولا يزال الوضع، على 
الرغم من الهدوء الحذر، معرّضا للاشتعال في أي لحظة، وهو لا يقل خطورةً، ولا دمويةً، عما يحصل من مواجهات مسلحة بين قبيلتي الزوية والتبو في الجنوب الشرقي.
وعلى الرغم من كل السلبيات التي أظهرتها القبيلة وتدخلها في الشأن السياسي، والتي لخصها البشير علي الكوت، في مقال له، بالاستحواذ على أكبر قدر من الغنائم من وظائف قيادية أو عادية أو عوائد مالية على شكل أموال أو مشروعات، حيث تقاس قوة القبيلة بما تنجزه في هذا المجال، مقارنة مع القبائل الأخرى، ما يعني استحواذها على ما تستحقه، وما لا تستحق، على الرغم من ذلك كله، ومن كل العراقيل التي ظهرت نتيجة تدخل القبيلة في السياسة، والتي أدّت، في أحيان كثيرة، إلى فرض نظام المحاصصة، لا القدرة والإمكانات، ستظل القبيلة التي شكلت، وعبر التاريخ، الحاضنة الاجتماعية التي تحمل في تاريخها إرثا ثقافيا، وقدرة على معالجة المشكلات القائمة، يمكن أن تلعب دورا أساسيا، في إحلال السلم، والتصالح بين مكونات المجتمع الليبي، خصوصا أنه مجتمع قبلي بامتياز، وغالبيته هم أبناء قبائل، أو منظّمون، بطريقةٍ أو بأخرى، تحت لوائها، ولا يستطيعون بشكل عام التمرّد عليها. وقد أدّى التدخل القبلي، في الأحداث الليبية أخيرا، إلى أدوارٍ إيجابيةٍ كثيرة، عجزت عنها الحكومات المختلفة، حيث نجحت المجالس القبلية في إبرام 68 صلحا من أصل 74، ونجحت في تبادل الأسرى في 38 واقعة وحادثة من أصل 57 بين المليشيات المتقاتلة، ما يجعلها أكثر فاعلية في إيجاد الحلول التي يرضاها الجميع، وتفرض نفسها أخلاقيا واجتماعيا، حتى في غياب الدولة وغياب أجهزتها.

دلالات