الفيزياء والشعر: معجم وأكثر

26 أكتوبر 2015
نصب لـ نيلس بور وألبرت أينشتاين في موسكو
+ الخط -

"حقل"، "غيمة"، "موجة"، "حالة"، "طَعم": لغة فيزياء الكمّ آهلة بمفردات عزيزة على الشعراء كهذه. ولكلمة "نرد" بلا شك مكانها في القائمة. "من أنا لأقول لكم ما أقول لكم"، هكذا تكلم "لاعب النرد"، وهو بصدد استتمام رحلته الإنسانية والشعرية، لحظةَ خَلُص محمود درويش إلى الإيمان بأنه كانت للـ"صدفة" يدٌ كبيرة في تلك الرحلة، عبر سائر محطاتها.

- "الله لا يلعب النّرد".
- "ومن أنت لتقول لله ما الذي عليه أن يصنع؟".
هذا التصريح من أينشتاين، وردٌّ من نيلس بور المعترض عليه، جرى تداولهما على مرّ السنين باعتبارهما جزءاً من مساجلة جمعت بين صاحب النسبيّتين وبور، أحد الآباء المؤسسين للنظرية الكوانتية، على هامش مؤتمر علمي في بروكسيل، في أكتوبر/تشرين الأول 1927.

ما دار بين الرجلين لم يأت بالضرورة بذلك التوتر وتلك الحدّة، لكن المؤكد أن أينشتاين استعمل صورة لعب الله بالنرد أكثر من مرّة، في معرض انتقاداته المتواصلة لميكانيكا الكمّ، ليس من حيث هي مجموعةُ معادلاتٍ أثبتث فعاليتها وبرهنت على تماسكها، بل بالنظر إلى تأويلاتها الفلسفية وتبعاتها الإبستمولوجية، أي من جهةِ عجزها، في تصوّر أينشتاين، عن وصف مكتمل للواقع.

في رسالة بتاريخ 4 ديسمبر/كانون الأول 1926، أي قبل المؤتمر بشهور، خاطب أينشتاين ماكس بورن، أحد المساهمين الأساسيين الآخرين في إرساء فيزياء الكمّ: "لقد منحتنا النظرية الكوانتية الكثير، لكنها بالكاد قربتنا من سرّ أبينا. على كل حال، لي اليقين أنه، من جهته، لا يلعب النرد".

أما رواية نيلس بور في الموضوع فنستقيها من مساهمةٍ له تضمّنها المؤلف الجماعي المخصّص سنة 1949 لأينشتاين، ضمن سلسلة "فلاسفة أحياء"، الصادرة وقتئذ عن جامعة نورث وسترن الأميركية: "كانت نقاشاتنا مطبوعة بالمرح، على الرغم من كل الاختلافات في المنهج وفي الرأي. لقد سألَنَا أينشتاين ساخراً إن كنا حقاً نعتقد أن السلطات الإلهية من شيمها اللعب بالنرد. وكان ردّي أنه علينا دائماً توخي الحذر، سيراً على نهج أسلافنا، كلما هممنا بأن نضفي على الألوهة صفاتٍ تنتمي إلى لغة البشر اليومية".

تتساءل الشاعرة المغربية سُكَينة حبيب الله، في مجموعتها الشعرية الأولى "لا لزوم لك" (2014): "ما الزهرةُ/ إلّم أنظر إليها". وبذات الصيغة الاستنكارية، تتساءل ميكانيكا الكمّ: ما الواقع المادي، إن لم نشاهده ونقسه؟ أمّا موقف أينشتاين، وكل من لفّ لفه من المشككين في المعرفة الكوانتية للكون، فهو أن القمر موجود، سواء وقع عليه بصرنا أم لم يقع.

بمقدورنا الزعم أن أوجه التقاطع بين فيزياء الكم والشعر، أو الفنون عموماً، تتجاوز نطاق معجم مشترك بينهما، مهما اتسع أو ضاق، نحو مقاربة مشتركة للعالم، تشكل فيها الحواسّ المدخل إلى معرفة لا تطمئن إلى الخصائص أو الصفات القارّة والنهائية لعناصر الكون أو الحياة، بقدر ما تنشغل بالحالات المتماوجة، المتقلبة والقلقة لتلك العناصر.

عكس ما يحصل في ميكانيكا الأجسام الصلبة، تجربة المشاهدة أو القياس في فيزياء الجسيمات ليس غايتها رفع النقاب عن خصائص أو مقادير موجودة سلفاً، بل إنّ التجربةَ تغدو هي نفسها خلقاً. يكون العالم ضبابياً متماوجاً، فمتى وقع في شراك العالِم الفيزيائي تشَكّل وانقشع، متخذاً حالة لا يمكن التنبؤ بها مسبقاً، بل تلعب فيها الصدفة، أي أهواء "النّرد" ومزاجه الآنيّ، الدور الأكبر.

تماماً مثلما يبدع خيال الشاعر وحواسه وإدراكاته حالة خاصّة للعالم، لم تكن في حسبان اللّغة، ثم يأتي، في مستوى لاحق، قارئ ما، ليمنح للنص معنىً خاصّاً به متماشياً مع هواجسه ومرجعياته وزوايا نظره، مرجّحاً بذلك تأويلاً ما، ضمن طيف واسع لا يحدّ من التآويل.


اقرأ أيضاً: هل كان أينشتاين مُحافِظاً أيضاً؟

المساهمون