العرب بعد ربيعهم..
يبدو أن تقييم نتائج "الربيع العربي" تتجه إلى الارتباط بشكل نظام الحكم الذي تنتهي إليه كل دولة عربية، شهدت هذا الربيع، من دون التركيز كثيراً على كيفية إدارة النظام الجديد للدولة. ذلك يؤكد أن ثورات "الربيع العربي" اهتمت بإسقاط أنظمة الحكم من دون إسقاط ممارساته، ولا إسقاط الثقافة الاجتماعية الحاضنة له، أو بكلمات أخرى دارجة: إسقاط رأس النظام، من دون إسقاط النظام نفسه!
لكن تقييم الحال بشكل أكثر عمقاً يقتضي الذهاب بعيداً عن الشكل، باتجاه المضمون، ذلك أن "الربيع العربي" يستقي قيمته التاريخية من مدى قدرته على إحداث نقطة تحول حضارية بالنسبة للعرب. هكذا، سيكون ضرورياً أن نتساءل عن تطور مسارات التنمية في بلدان "الربيع العربي"، بعد أن تستقر أوضاعها السياسية والأمنية، حتى يمكن تقييم نجاح الثورة من عدم نجاحها.
ما يزال الوقت مبكراً على تقييم هذا الأمر، فمعظم بلدان "الربيع العربي" لم تنل حظها من الاستقرار بعد. نعم، لكن ذلك لا يعني تناسي أن ثورات "الربيع العربي" ارتبطت، أصلاً، بفشل بلدانها في اتخاذ قرارات تنموية نافعة، تترك أثراً استراتيجياً ملموساً على اقتصادياتها: ألم تبدأ شرارة "الربيع العربي" من تونس، احتجاجاً على الإساءة لفقير يبيع الخضار على عربة في السوق، ما أفضى إلى إقدامه على حرق نفسه؟
علينا أن نتذكر أن بعض تلك البلدان سعت، قبل "الربيع العربي"، إلى إعادة النظر في اقتصاداتها، فاعتمدت من جديد على الاستثمار الأجنبي، وتحرير الاقتصاد بعيداً عن تدخّل الدولة، وتشجيع الصناعة التصديرية، لكن تلك الإجراءات التي جرى تسويقها، في بعض البلدان، باعتبارها "إنقاذية"، كان لها ثمنها الاجتماعي، كما بات معلوماً. ولهذا، ظهر، في العالم العربي، من يفرّق بين التدخل التوجيهي المحدود والسيطرة الشاملة على طريقة الإدارة الشديدة المركزية، معتبراً أن الأخيرة قد تؤدي إلى تعطيل الاستثمار، وبالتالي إعاقة جهود التنمية.
أخذ الذين نادوا بهذا التفريق باعتبارهم ما أنتجته المرحلة التي عاشها العالم منذ مطلع تسعينيات القرن العشرين، من مجالات لتعميق الاختلال في العلاقات الاقتصادية بين البلدان العربية، ذات الإرث الشمولي، والعالم، من ناحية "الاندماج بالاقتصاد العالمي"؛ إذ كان من الطبيعي أن يؤدي انفتاح اقتصاديات الدول النامية، باتجاه إدماجها في الاقتصاد العالمي، سعياً إلى الحصول على التمويل والاستثمارات الأجنبية، إلى تعميق تبعيتها لاقتصاديات الدول المتقدمة، ذلك أن العلاقة بين الطرفين، المتقدم والمتأخر، والتي تُقام على أساس "الاعتماد المتبادل"، لا بد أن تميل لمصلحة الأول، كونه الأقدر على التحكم بمضمون التبادل وشروطه وحدوده. وعلى هذا، كان طبيعياً أن تتعارض مساعي الدول النامية إلى إدماج اقتصادها في الاقتصاد العالمي، بغية تسريع عملية التنمية، مع أهداف التنمية، خصوصاً من زاوية انعكاساته السلبية المباشرة على مصالح الشعوب، إذ إن هذه الشعوب، التي هي، في الغالب، ذات مستويات معيشية منخفضة، قياساً إلى شعوب الدول المتقدمة، قد تخضع إلى ضغوط السلع والخدمات ذات الجودة العالية التي تعرضها الدول المتقدمة، مستعينة بما تتوفر عليه من قدرات إعلانية ودعائية ضخمة. وهكذا يكون على الدولة الطامحة للتنمية أن تتخذ إجراءات تحول دون خضوع شعوبها لتلك المواد المستوردة، بالتحكم بإنتاج سلع وخدمات محلية، تلبي الحاجات الأساسية الداخلية، قدر الإمكان.
ما كان يقوله أصحاب دعوة التفريق تلك إن إجراءات "التصحيح الهيكلي" التي ظلت علامة من علامات "العولمة"، وفيها تحد الدولة من تحكمها في الإنتاج وتقرير الأسعار والتجارة الخارجية وحركة النقد الأجنبي، وتوقف سياسات الدعم والمنح وتعمل على خصخصة المؤسسات العامة، ثم تترك دورها المركزي في الاقتصاد لقوى السوق، كلها كان يمكن أن لا تكون مطلقة، وكان يمكن لجم آثارها السلبية بسياسات تعويضية للمجتمع، وحمائية للصناعة الوطنية، بما يخدم أهداف التنمية.
هكذا، فإن إطلاق تاريخ عربي جديد بعد "الربيع العربي"، سيكون متعلقاً بالكيفية التي يُدار فيها الاقتصاد: هل سيتابع العالم العربي "النامي" سياساته الاقتصادية الانفتاحية، وإطلاق يد قوى السوق في التحكم بحياة الناس، والتي انعكست سلبياً على التنمية، وعلى مستوى معيشة الشعوب؟ أم أن الثورات ستفرض إدراكاً مفاده أنه لم يعد ثمة فكاك من تدخّل الدولة التوجيهي، حماية للاقتصادات الوطنية، وخدمة للتنمية؟
علينا أن نفكر بعيداً، ولو أن الوقت ما يزال مبكراً.