العراق وفخ الانتخابات المبكّرة

04 اغسطس 2020
+ الخط -

طربت القوى السياسية والتيارات الدينية في العراق على نغمة الانتخابات المبكّرة التي أعلن عنها رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي، وحدّدها في يونيو/ حزيران من العام المقبل، بل راحت تلك القوى والأحزاب والتيارات تتبارى في تقديم عروض "أبكر" لهذه الانتخابات، وذلك كله من أجل الاستجابة لمطالب متظاهري ثورة تشرين الذين طالبوا بانتخابات مبكّرة، كما تدّعي.
ويبدو أن الانتخابات المبكّرة لم تعد مطلب ثوار تشرين، بقدر ما هي مطلب القوى السياسية والتيارات الدينية التي شعرت، لوهلة، بأن الثورة سرقت منها امتيازاتٍ كثيرة كانت لديها، وعرّتها وكشفت سوأتها أمام عموم الشعب العراقي، بل كادت الثورة أن تسحب البساط من تحت كل أطراف العملية السياسية، لولا ظهور جائحة كورونا التي منحت العملية السياسية قبلة الحياة والنجاة من مصير النهاية المحتوم.

مليون ونصف مليون عراقي في مخيمات اللجوء منذ أربع أو خمس سنوات، أليس الأجدر بالكاظمي وفريقه أن يعيدوهم إلى منازلهم؟

لم تكن مطالب ثورة تشرين بالانتخابات المبكّرة لإعادة الوجوه والأحزاب نفسها إلى الواجهة السياسية، وهي المسؤولة عما آل إليه وضع العراق، بل كانت تلك المطالب الثورية تتمحور حول إقالة حكومة عادل عبد المهدي المسؤولة عن مقتل 700 متظاهر، وإصابة أكثر من 30 ألف آخرين بجروح وعاهات مستديمة لدى بعضهم، ثم تشكيل حكومة مؤقتة غير حزبية، تقود العراق إلى انتخابات مبكّرة.
طالب الثوار بانتخابات نزيهة. وحتى يتحقق هذا الشرط، أكّدوا أن على الحكومة المؤقتة أن تسن قانونا للانتخابات، يمكن للعراقي أن يوصل الشخص الذي يريده إلى البرلمان، لا الشخص الذي يختاره الحزب أو الكتلة، وتشكيل لجنة مفوّضين جديدة مستقلة، وإشراف دولي على سير الانتخابات، لضمان عدم تزويرها. وطالب متظاهرو تشرين بحصر السلاح بيد الدولة، لأنه لا يمكن لأي انتخاباتٍ أن تجري تحت ترهيب سلاح المليشيات وتهديده، وأن يُسنّ قانونٌ يجرّم الأحزاب الطائفية والعنصرية، وأن يعلن كل حزب أو تيار مصادر تمويله. بل الأكثر من ذلك طالبت ثورة تشرين بمنع ترشيح أي شخصيةٍ شاركت في العملية السياسية منذ 2003، كون تلك الشخصيات وأحزابها هي المسؤولة عن الفساد والطائفية وتفشّي القتل.
لا شيء حققه مصطفى الكاظمي من هذه الشروط حتى يقفز إلى الانتخابات المبكّرة، فقد تبين، منذ أول مجابهة مع حيتان الفساد والمليشيات، أنه ضعيف، وغير قادر على المواجهة، أو لا يمتلك الأدوات اللازمة، هذا إذا أحسنّا الظن به. وليس سرّاً أن الرجل جاء بمهمة واحدة ومحدّدة، تسويف مطالب المتظاهرين، والانحناء للعاصفة الشعبية حتى حين، وإجراء انتخابات تستعيد فيها القوى والأحزاب والتيارات السياسية ما يمكن أن تكون قد خسرته بعد ثورة تشرين.

طالبت ثورة تشرين بمنع ترشيح أي شخصيةٍ شاركت في العملية السياسية منذ 2003، كون تلك الشخصيات وأحزابها المسؤولة عن الفساد والطائفية وتفشّي القتل

كيف للعراقيين أن يعودوا إلى صناديق الاقتراع، والقوى والأحزاب والشخصيات المتنافسة هي ذاتها التي تتصدّر العملية السياسية منذ 2003؟ كيف لهم أن ينتخبوا شخصية جديدة ونزيهة، بعيداً عن المحاصصة والطائفية والحزبية، وكل من سيرشّح سيكون مهدّداً من هذه القوى؟ ثم أليس الأجدر بالكاظمي أن يعمل على سن قانون الانتخابات في البرلمان، قبل تحديد موعد الانتخابات؟ أليس الأجدر أن يكشف قتلة المتظاهرين، وقد وعد بذلك، قبل تحديد موعد الانتخابات؟ هناك مليون ونصف مليون عراقي في مخيمات اللجوء منذ أربع أو خمس سنوات، أليس الأجدر بالكاظمي وفريقه أن يعيدوهم إلى منازلهم؟ ليست مطالب المتظاهرين من حكومة الكاظمي مستحيلة، بل هي خريطة طريق فعلية للانتقال من واقع العراق المزري إلى واقع أفضل، وكل ما يقال إن تلك المطالب مستحيلة أو صعبة التحقق في غضون عام ونصف العام ما هي إلا محاولات حزبية سياسية للتسويف والخداع.
لم تتعدّ نسبة مشاركة العراقيين في انتخابات 2018 حاجز 20%، لأن الشعب بات واعياً أن الانتخابات ما هي إلا لعبة أحزاب وقوى سياسية، من أجل بقائها في مركب السلطة، وبالتالي بقاء الحال على ما هو عليه، شعب مسلوب منهوب، وساسة وأحزاب ينعمون بخيرات البلاد، وينفذون أجندات قوى ودول خارجية حولت العراق ملعبا لتصفية خصوماتها.

بات الشعب واعياً أن الانتخابات ما هي إلا لعبة أحزاب وقوى سياسية، من أجل بقائها في مركب السلطة

لا يمكن بأي حال وضع العربة قبل الحصان. هناك اليوم مليشيات حزبية تهدّد حتى الكاظمي، وتتهمّه بأنه وراء مقتل الجنرال الإيراني قاسم سليماني، ونائب رئيس هيئة الحشد الشعبي أبو مهدي المهندس، في قصف أميركي، مطلع العام الجاري. وما زالت هذه المليشيات تمارس سلطتها عليه، وهو الذي فشل في اعتقال عناصر منها كانت تخطط لشن عملية قصف صاروخي على المنطقة الخضراء والسفارة الأميركية، فهل يعقل أن لديه القدرة على تنظيم انتخابات جديدة نزيهة؟ يدرك العراقيون جيداً أن كل مولود من رحم هذه العملية السياسية سيكون مشوّهاً ولا يعبر عن تطلعاتهم، فهم وبعد أكثر من 700 شهيد سقطوا برصاص قوات الأمن والمليشيات المساندة لها، منذ أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، لا يريدون انتخاباتٍ تكميلية تستعيد فيها القوى الحاكمة بعض ما خسرته جرّاء الثورة. يريدون انتخاباتٍ مستوفية شروطها، لا تعيد إنتاج الوجوه التي أفقرت البلاد، ودقّت مسامير في نعش العراق منذ 2003. وبالتالي، الدعوة إلى انتخابات مبكّرة من دون استيفاء حدّها الأدنى من شروط المتظاهرين، ما هي إلا فخ نصبته أطراف العملية السياسية وتنفذه، بقصد أو من غير قصد.

96648A48-5D02-47EA-B995-281002868FD0
إياد الدليمي
كاتب وصحافي عراقي. حاصل على شهادة الماجستير في الأدب العربي الحديث. له عدة قصص قصيرة منشورة في مجلات أدبية عربية. وهو كاتب مقال أسبوعي في عدة صحف ومواقع عربية. يقول: أكتب لأنني أؤمن بالكتابة. أؤمن بأن طريق التغيير يبدأ بكلمة، وأن السعادة كلمة، وأن الحياة كلمة...