ثمانية أشهر لفضح العالم

04 يونيو 2024
+ الخط -

ندخل الشهر الثامن من الحرب المجنونة التي تشنّها دولة الكيان الإسرائيلي على غزّة، ليس هناك من يجهل اليوم عددَ الشهداء، الذين يصل عددهم إلى نحو 38 ألفاً، وربّما أكثر، ولا أعداد الجرحى الذين لا يبدو أنّ هناك قدرة على إحصائهم، فهم بأعداد مهولة، وربّما عجزت، حتّى الدوائر المتخصّصة في غزّة، عن إحصائهم. أمّا المشرّدون والنازحون فيمكن أن تقول إنّهم كلّ أهل القطاع (أكثر من مليونين ونصف مليون قبل الحرب الهمجية).
ليست مُجرّد أرقام، ولم يكن أصحابها مُجرّد أرقام، ولكنّهم بشرٌ، رسموا، ذات يوم، على صفحة السماء قصص أحلامهم، وكانوا يتنسّمون، كلّ صباح، رائحة الأمل. تغيّر كلّ شيء، يمكن أن تشاهد فقط شعباً يتنقل من خيام إلى أخرى، هذا إذا لم تسعفه الطائرات والصواريخ فتنقله إلى السماء أو تحيله مُجرّدَ أشلاء، فأنت أمام مشهد ربّما يصعب جداً أن يُصدَّق لولا أنّك تشاهده منقولاً على مدار الساعة، مباشرة من هناك، من قلب الموت.

إزاء هذه المشاهد كلّها، وهذه الأشلاء، التي تتناثر، تتساءل، بكثيرٍ من الألم، لماذا لا تحرّك هذه المشاهد أحداً؟

إزاء هذه المشاهد كلّها، وهذه الأشلاء، التي تتناثر وتشعر في لحظة أنّها قد تدخل عليك من شاشة التلفاز، تتساءل، ليس بتعجب، وإنّما بكثيرٍ من الألم، ألم معجون بذلّ السؤال والتساؤل، لماذا لا تحرّك هذه المشاهد أحداً؟ أين المجتمع الدولي؟ أين منظّمات حقوق الإنسان؟ أين الأمّة المليارية التي لطالما تفاخرنا بها؟ أين العروبة ودمها الذي قالوا إنّه يسري في عروقنا؟ أين الذين قالوا، ذات يوم، إنّ زوال إسرائيل قادم، وإنّ محورهم المقاوم سيدمّر تل أبيب، وإنّ صواريخهم تصل إلى يافا وما بعد يافا، وإنّ وحدة الساحات، التي زعموا يوم بدأ العدوان على غزّة أنها ستحيل ليل الكيان نهاراً، وستكتب قصّة زوالهم وزوال ملكهم؟ أين هم؟
أما الأنظمة العربية، فحتّى السؤال الخجول والمعجون بذلّه يخجل منهم، ومن أن نسأل أين هم، ربما هي المنظومة الوحيدة التي لا تستحقّ حتّى أن يوجّه لها هذا النوع من الأسئلة، أين أنتم مما يجري في غزّة؟... فثمّة أنظمة تحلم كما قادة الاحتلال أن يستيقظوا صباحاً ويجدوا أنّ غزّة وأهلها قد غرقا في البحر، غرقا إلى الأبد، فهما بالنسبة لهم صداع مزمن.
اليوم، ونحن نفتتح شهر الإجرام الإسرائيلي الثامن على غزّة، يجدر بنا أن نعيد ترتيب أفكارنا، أن نعيد ترتيب أولوياتنا، أفراداً وشعوباً ومثقفين، فهذا العالم غابة، متوحّش، لا يعترف إلا بالقوي، لا يقيم وزناً لشيء أكثر من مصالحه، فلقد خدعنا الغرب عقوداً خلت، يوم أن سوّق نفسه نصيراً للإنسانية، يوم أن أقنعنا أنّ فظائع الحربين العالميتَين الأولى والثانية لا يجب أن تتكرّر، يوم أن سوّق لنا مجلساً أطلق عليه مجلس الأمن، ثم اكتشفنا أنّه مُتخصّص بصيانة أمنهم هم لا أمن الشعوب الأخرى، تلك التي يحتاجها الغرب لإدامة عجلة نهضته، شعوب الموارد، التي يجب أن تبقى تحت هيمنته.
تتذكّرون قبل أعوام فقط، يوم كانت الطائرات الروسية تقصف المدن والبلدات السورية؟ يوم كانت تلك الطائرات تبيد الحجر والشجر والبشر؟ يوم كانت تساعد أحد أكثر الأنظمة ديكتاتورية وقمعاً ووحشية في دمشق في قتل شعبه وتهجيره؟... يومها، كانت أميركا، الأمّ الرؤوم، تسارع بين حين وآخر إلى مجلس الأمن في محاولة منها لإصدار قرار أممي ضدّ نظام دمشق القمعي، حينها، كانت تجد المندوب الروسي يسارع لرفض القرار، معلناً الفيتو على مشاريع تدين الأسد. سنوات قليلة، فتبدأ عملية تبادل الأدوار، تسارع روسيا إلى مجلس الأمن لإدانة دولة الكيان على ما ترتكبه من مجازر في حقّ الفلسطينيين، لتجد هذه المرّة يد المندوب الأميركي أسرع بالرفض و"الفيتو" على أيّ قرار يدين دولة الكيان، حتّى لو كان إدانة غير ملزمة. وكأنّهم يلعبون بنا وعلينا، وكأنّهم يتقاسمون دمنا، ويأكلون لحمنا على موائدهم من دون استحياء، من دون خجل، من دون أيّ شعور بأنّهم يكذبون وينافقون ويزيّفون الواقع والحقائق، وكأنّ هذه الشعوب مُجرّد مجموعة حمقى، أو بلهاء، عليهم أن يصدّقوا هذه التمثيليات السمجة كلّها، وهذه المشاهد المُكرّرة والأدوار البائسة.
علينا أن نعيد النظر في كلّ شيء حولنا، هذا عالم كاذب خدّاع، تُسيّره رأسمالية مُتوحّشة وعُقد تاريخ وخوف على مستقبل المصالح، يدوس كلّ ما يمكن أن يقف حجرة عثرة في وجه وحشيته، هذا عالم مُتوحّش إلى الحد الذي تخجل منه كلّ صفات التوحّش، التي مرّت وستمرّ. عالم يدعم القتلة، يدعم المجرمين، عالم لا يكفي أن ننزع عنه صفة الإنسانية، ولكن، أن تبدأ حركة مجتمعية من داخل القاعدة الشعبية من أجل التغيير، وهو ما بدأ فعلياً في المجتمع الغربي، وإذا ما استمرّ هذا الحراك فإنّنا يمكن أن نشهد عالماً أقلّ وحشية.

ثمّة أنظمة تحلم كما قادة الاحتلال أن يستيقظوا صباحاً ويجدوا أنّ غزّة وأهلها قد غرقا في البحر إلى الأبد، فهما بالنسبة لهم صداع مزمن.

ثمانية أشهر وغزّة تذبح، ثمانية أشهر وفيض الدماء التي تشرب منها تُربة غزّة موجع، ثمانية أشهر وهذا العالم، بكلّ مؤسّساته ومنظّماته، يقف في جانب إسرائيل، في جانب نتنياهو، حتّى وإن أبدت بعض المنظّمات انزعاجها، فهذا عالم تحكمه أميركا، أو إن شئت الدقّة، إسرائيل هي التي تحكم أميركا، فلقد خرجت هذه الدولة اللقيطة على كل مبادئ الكون، وباتت تستبيح كلّ شيء، فهي لا تحترم منظّمة ولا تعترف بدولة، ولا تُقر أي صيغة تفاهم للتعايش الإنساني.
تُرى بأيّ وجه سيقابل هذا العالم غزّة غداً، بعد أن تتوقّف نيران العدوان الهمجي؟ بأيّ وجه سنقابل نحن، أمّة العرب والإسلام، أهل غزّة؟ بأيّ وجه سنقول لهم إنّا كنّا معكم، ولكن... ولكن ماذا؟ وذلك لعمري! أصعب سؤال يمكن أن يوجّهه إلينا طفل غزّي صغير خرج للتوّ من ركام بيته المُهدّم جرّاء صواريخ الحقد الصهيونية.

96648A48-5D02-47EA-B995-281002868FD0
إياد الدليمي
كاتب وصحافي عراقي. حاصل على شهادة الماجستير في الأدب العربي الحديث. له عدة قصص قصيرة منشورة في مجلات أدبية عربية. وهو كاتب مقال أسبوعي في عدة صحف ومواقع عربية. يقول: أكتب لأنني أؤمن بالكتابة. أؤمن بأن طريق التغيير يبدأ بكلمة، وأن السعادة كلمة، وأن الحياة كلمة...