العراق في ظل أصوليات شريرة

28 اغسطس 2014

عراقيون يتظاهرون في بروكسل ضد "داعش" والطائفية (13أغسطس/2014/الأناضول)

+ الخط -


في رؤية لأحوالنا، كتب صحافي غربي "يتقاتل العراقيون على خلفية أمر حدث في سقيفة بائسة، قبل ألف وأربعمئة عام، كم من الزمن يحتاج العراقيون، لينفضوا أيديهم من هذا الأمر؟".

كتبت له "الأصوليات، يا سيدي، لا تنقصف أعمارها بسرعة، فهي تتغذّى على بعضها، لكي تعمر طويلاً، وها هو العراق يتنقل في ظل (داعش) و(النقشبندية) و(العصائب) و(جيش المختار) وسواها، بين مذبحة سبايكر، ومجزرة مصعب بن عمير، ومن تهجير السنّة والشيعة إلى تهجير المسيحيين والأيزيديين، ومن العالقين في جبل سنجار إلى المحاصرين في آمرلي، والأصوليات تبعث فيها الحياة دولٌ عندما تحتاجها، وتتخلى عنها عندما تصبح عبئاً عليها.

خلق الأميركيون "القاعدة" للوقوف في وجه الشيوعية، وعندما انكفأ الشيوعيون تخلى الأميركيون عنها، وها هو نسلها "داعش" يمد أقدامه الشريرة إلى أكثر من مكان في العراق وسورية ولبنان، وحتى نيجيريا، وإذا كان الأميركيون قد غزوا العراق بدعوى رسالة إنجيليةٍ، وصلت إلى جورج بوش، تحثه على إضاءة مدينته المقامة على جبل، لماذا، إذن، يستكثرون على الخليفة البغدادي أن يمد دولته إلى أكثر من سهل ومن جبل، وهم، أيضاً، عندما أدركوا بغداد، حرّكوا عصبيات متوحشة، وأيقظوا غرائز حيوانية مقموعة، لكي تسهل لهم دخول العراق الذي كان عصياً عليهم، كذلك، فعل الإيرانيون الذين استحثّوا نوازع الشر المذهبي، ليضمنوا موطئ قدم لهم على أرضنا، ربما انتقاماً من حربٍ ضروس، خلقت أحقاداً يصعب تجاوزها عقوداً!

هكذا بعث الطرفان الحياة، على غير اتفاق، في تنظيماتٍ وميليشياتٍ وحركاتٍ أصولية، تعتاش إحداهما على الأخرى، وكلها تلتقي في تحريم عقيدة الآخرالمخالف، وترى في خياراتها الاكتمال والتفرد، وتستقي معاً من منبع "سقيفة بني ساعدة"، التي جيّرت حصيلتها سياسياً لتقسم المسلمين أشتاتاً، ولتشكل خطراً على الدولة الحديثة، وعلى الحضارة والتقدم، وعلى الدين نفسه!

وهكذا، حمل تنظيم داعش راية الخلافة، متحالفاً مع "علمانيين" و"ثوار" عيونهم على السلطة، لكنه بعد أن استتب له المقام في الموصل، طرد حلفاءه، وشرع بالتمدد في كل الاتجاهات، معتمداً على قاعدة "الصدمة تولد الرعب"، لضم أناس جدد، وقضم أراضٍ جديدة، وإثارة الشعور بالهزيمة النفسية لدى السكان الذين يحاصرهم، ما يمهد لهزيمتهم مادياً، وهربهم، أو إجبارهم على إعطاء البيعة كرهاً، ومتبعاً طرقاً وحشيةً في قتل المخالف وإفنائه، والتمثيل بجثته، ناظراً إلى الآخر بعين سوداء، حيث "الآخر" دائما كافر أو مرتد أو رافضي.

وهكذا أيضاً استولدت إيران نسلاً جديداً من حركات التطرف المذهبي، التي زرعت جذورها، في الأصل، في أقبية ومختبرات جهاز(السافاك)، زمن الشاه الراحل، لتمثل ذراعها الضاربة في العراق، مستخدمةً في مواجهة خصومها المذهبيين التهديد والوعيد، أو الاختطاف وتخييرهم بين الرحيل أو الموت، فيضطر هؤلاء إلى الهجرة، أو تلقي مصيرهم قتلاً عمداً، أو اغتيالاً بالمسدسات الكاتمة للصوت. ويجد التنظيم الحماية التي يوفرها التداخل بين الميليشيات والسلطة الحاكمة والجيش في عراق ما بعد "التحرير"، كما يجد الدعم المعنوي من "المرجعيات"، من خلال الفتاوى التحريضية، وعلى لسانها لغة "داعش" نفسها، والآخر لديها تكفيري أو وهابي أو ناصبي.
تسعى هذه الأصوليات إلى فرض شكل للعالم، وحشي، متخلف وشرير، ومواجهتها لن تتم من دون نزع القشرة الروحية التي تتحصن وراءها، وفي ظل بنيةٍ علمانية، وبيئةٍ طاردة للأصوليات، ونظام سياسي يعتمد المواطنة الحرة والمتساوية أمام القانون، وبغير ذلك فإن الفتنة الكبرى ستتوسع وتمتد، ولن تنتج سوى مزيد من الدم، ومزيد من الخراب. نحتاج إذن سنوات طوالاً، ربما عقوداً لكي نقول إننا بدأنا رحلة الألف ميل على طريق الخروج من أدغال الأصولية.

583FA63D-7FE6-4F72-ACDD-59AE85C682EB
عبد اللطيف السعدون

كاتب عراقي، ماجستير علاقات دولية من جامعة كالجري – كندا، شغل وظائف إعلامية ودبلوماسية. رأس تحرير مجلة "المثقف العربي" وعمل مدرسا في كلية الاعلام، وشارك في مؤتمرات عربية ودولية. صدر من ترجمته كتاب "مذكرات أمريكيتين في مضارب شمر"