حكومة الخارج
حكومة حيدر العبادي الثالثة دستورياً، والخامسة منذ الغزو الأميركي للعراق في مارس/آذار 2003، جاءت وكأنها مخصصة للخارج وليس الداخل، إذ تضم صقور العملية السياسية في العراق؛ من بينهم رئيس وزراء سابق هو إبراهيم الجعفري، في منصب وزير الخارجية، ونائب رئيس الجمهورية السابق، عادل عبد المهدي، في منصب وزير النفط، فضلاً عن زعيم إحدى أكبر الكتل السنية وهو صالح المطلك، في منصب نائب رئيس الوزراء.
ولدت الحكومة في مرحلة لا مجال فيها للفشل، على وقع تحديات أمنية وسياسية ودعوات لتقسيم البلاد. لذلك، فإن الحكومة التي استقبلها الشارع العراقي بخيبة أمل بدت واضحة على مواقع التواصل الاجتماعي، لاقت ترحيباً سريعاً من دول العالم المختلفة. وسارعت الولايات المتحدة على لسان وزير الخارجية، جون كيري، إلى تأكيد أن "تشكيل حكومة عراقية جديدة لا تُقصي أحداً حدث هام وكبير للبلاد في مواجهة (تنظيم الدولة الإسلامية) داعش". ويذهب المسؤول الأميركي إلى اعتبار أن "الحكومة التي شُكّلت، الاثنين، لديها القدرة على توحيد جميع طوائف العراق، من أجل عراق قوي وموحد، وإعطاء هذه الطوائف فرصة بناء مستقبل ينشده العراقيون جميعاً".
ويعود سبب خيبة أمل الشارع العراقي إلى تكرار العديد من الوجوه السابقة في حكومة العبادي، وإعلان الكتل السنية والكردية تأجيل عدد من مطالبها لما بعد الإعلان عن تشكيل الحكومة بضمانات أميركية يلتزم بها العبادي، وهو ما وعد به الأخير خلال خطاب التكليف الذي ألقاه أمام البرلمان قبل نيله الثقة.
ويلاحظ على حكومة العبادي أنها حكومة تناغُم توجهات وتطلعات الخارج لا الداخل العراقي، إذ مثّلت حكومة توافقات الأضداد الثلاثة السنية والشيعية والكردية، كما تشتهي الدول الكبرى، وتستند إلى الكتل السياسية الرئيسة في البلاد الذين جمعتهم علاقة مصالح طارئة وضغوطات خارجية، بشكل جعل الحكومة وكأنها زواج إكراه، علماً أن تشكيلة العبادي افتقدت وزراء متخصصين في مجال حقائبهم، وغلبت عليها الصفة السياسية وليست المهنية، التي كان العبادي قد وعد بها خلال بيان تكليفه المنصب. واقع يؤكد أنها حكومة "مسيرة غير مخيرة"، أوجدت شكلاً بلا مضمون لإدارة البلاد، ولا سيما إذا ما وجدنا أن أهم وزارتين أُجِّل التصويت عليهما أسبوعاً واحداً، وهما وزارتا الدفاع والداخلية، بعد تحفظ أميركي ورفض سني كردي على منح الداخلية لزعيم ميليشيا "بدر" المقربة من إيران، هادي العامري، وتحفظ شيعي على مرشح السنة لمنصب وزارة الدفاع اللواء، خالد العبيدي، أحد قادة الجيش العراقي السابق.
كما أن طريقة تقسيم الوزارات السيادية، ومنحها قادة بارزة سنية وشيعية وكردية، تؤكد وجود صفة المحاصصة الطائفية التي تمنح الحكومة صفة التمثيل عن المكونات الثلاثة المتناحرة، والشخصيات التي اختيرت لشغل الوزارات تتمتع بعلاقات دولية وقبول من الدول العربية والغربية على حد سواء.
قد تكون حكومة العبادي الأسوأ من بين الحكومات التي يشهدها العراق منذ الاحتلال لبُعدها عن التخصص، لكنها الأفضل من ناحية المشاركة في القرارات المصيرية، فالأقوياء الأضداد لن يسمحوا باختزال القرارات بشكل واحد على عكس الحكومة السابقة التي كانت تبدو وكأنها "ملكية خاصة" لنوري المالكي.
الصلاحيات الموزعة بين الشخصيات القوية في الحكومة الجديدة، تجعل أمر حل الحكومة أسهل بكثير من تفرد العبادي بسياسة معينة. وحول هذه المسألة، يقول المتحدث باسم "كتلة المواطن" البرلمانية، بليغ أبو كلل، لـ"العربي الجديد"، إن "ما تحقق ليلة الاثنين، وعلى الرغم من كل الملاحظات على الحكومة الجديدة، يعدّ إنجازاً حقيقياً قيمته في التغيير الحاصل الذي يقارب من عملية التغيير في عام 2003".
ويضيف أبو كلل "الأمر الذي نحن واثقون منه أن هذه الحكومة لن تكرّر أخطاء السابق، وإن حاولت فلن تتمكن مع وجود شخصيات لها ثقلها".
إيجابيات وسلبيات
معروف عن العبادي أنه من الشخصيات البعيدة عن المحور الإيراني ــ السوري، كونه قضى معظم فترة شبابه في لندن واكتسب جنسيتها وتربطه علاقات وطيدة بسياسيين ووزراء في حكومة رئيس الوزراء، ديفيد كاميرون. كما أنه يُعتبر أكثر انفتاحاً على المطالب السنية، وسبق أن انتقد طريقة نوري المالكي في التعامل مع المعارضين السنة والتظاهرات التي خرجت في العام الماضي. كذلك فإن ميوله قومية عربية أكثر من الإسلامية، وفقاً لمقربين منه، وهو ما يمنحه أفقاً أكبر للنجاح في إدارة الحوار مع الطائفة السنية.
ويشير تضمين العبادي في خطابه الدستوري للتكليف بتشكيل الحكومة، لفقرة تتعلق بعلاقة العراق المستقبلية بالدول العربية إلى وجود نية لديه لإصلاح ما أفسده المالكي، علماً أن الحكومة لا تضم أيّاً من أقطاب التناحر العراقي مع العرب والغرب، كما هو الحال في حكومة المالكي السابقة.
والأهم من هذا هو نيل العبادي لدعم أميركي غربي مفتوح، واستعداد الدول العربية للتعامل معه في مجال الحرب على "داعش"، أو إقامة علاقات دبلوماسية وإعادة تبادل فتح السفارات بين العراق وتلك الدول.
كما أن العبادي لن يكون بمقدوره معارضة القرار الأميركي أو الانقلاب على العهود التي قطعها على نفسه بالضمانات الأميركية للسنة والأكراد، ولا سيما أن التدخل العسكري الأميركي أنقذ بغداد من خطر اقتحامها، وبإمكان أي تلاعب منه أن يؤدي إلى تخفيف وتيرة الدعم العسكري بشكل يجعل العبادي في موقف لا يحسد عليه.
أما عن سلبيات الحكومة، فيبدو أن أهمها يتمثل في عدم قدرتها على حل مشكلة الميليشيات التي تنتشر في بغداد ومدن مختلفة من العراق، وتكاد أعداد عناصرها تضاهي أعداد الجيش والشرطة بسبب حصولها على مباركة ودعم من المرجع الديني علي السيستاني، بغطاء "الجهاد الكفائي" ضد "داعش"، إضافة إلى الصراع الإيراني ـ الأميركي في العراق، وتمتع طهران بنفوذ قوي لدى "التحالف الوطني" الذي ينتمي إليه العبادي.
كما أن الشكوك في عدم قدرة الأخير على تنفيذ عدد من الوعود التي قطعها للسنة والأكراد، مثل العفو العام ومحاكمة ضباط المالكي المتورطين في جرائم حرب وإلغاء اجتثاث حزب "البعث" الذي يعارضه التحالف الشيعي ومنح الأكراد نسبة 21 في المئة من الموازنة السنوية ومنحهم استقلالية في سلطة الطيران في أجواء الإقليم ومسألة كركوك والمناطق المتنازع عليها، قد تكون كفيلة بإفشال الحكومة، فضلاً عن شكوك في قدرتها على إعادة هيكلة قوات الجيش بشكل كامل.
كذلك ستكون الحكومة الجديدة معرضة لأزمات كبيرة بسب مشاكل عالقة منذ سنوات، مثل إجراء تعداد سكاني في البلاد، وتنفيذ البند 140 من الدستور المتعلق بالمناطق المتنازع عليها، فضلاً عن ترسيم حدود المحافظات وإنشاء مجلس السياسات العامة وإقرار قانون الأحزاب والحركات السياسية.
ومما تقدم يمكن القول إن حكومة العبادي تبدو أقرب لأن تكون حكومة تصريف أعمال دولية في العراق، كان للأميركيين الدور الأكبر في تشكيلها بهدف منحهم شرعية دولية كفيلة بالتدخل لمواجهة "داعش"، وهو هدف قريب من الإنجاز بناء على ما تبديه الولايات المتحدة من إصرار واضح على خوض مواجهة فعلية مع التنظيم. كما أن علاقة المالكي بنظام الرئيس السوري، بشار الأسد، استدعت تدخل الدول الكبرى كون هذه العلاقة باتت تمثل عامل إطالة روح وعمر النظام السوري.
ربما حظي العراق بحكومة يمكن لها أن تحقق أهدافاً أميركية في ملف الإرهاب، وأخرى خارجية تتمثل في إنهاء قطيعة بغداد بالدول العربية والعالمية بشكل عام، وإبعادها ولو بشكل جزئي عن طهران. لكن الحكومة لن تكون في أفضل أحوالها الحكومة التي يتمناها العراقيون في تحقيق استقرار نهائي، بصورة يمكن معها أن يُقال إن المنطقة الخضراء أنجبت حكومة بعين واحدة، مهمتها الأمن ومحاربة "داعش" أولاً. وليس هذا أمل العراقيين في حكومة ينتظرون منها أن تنتشلهم من الواقع اليومي المزري وما يعانونه في ملفات الأمن والاقتصاد والتنمية والبطالة وارتفاع معدلات الفقر.