العراق إلى نظام ولاية الفقيه
الحال في العراق، بعد ترسيخ نظام المحاصصة الطائفية، أن كل طائفةٍ حصلت على نسبتها في السلطة، الموافقة لنسبتها الديموغرافية. بُني هذا النظام على أمل أن يؤدي هذا التقاسم للسلطة إلى إرضاء الجميع واستقرار العراق، بعد أن عاث فيه المحتل فساداً، لكن النتائج كانت كارثية على الجميع، بمن فيهم الشيعة الذين حكموا العراق الجديد.
في السنوات الثماني الماضية، حكم نوري المالكي العراق، بتفويضٍ من حزب الدعوة الإسلامي الذي يترأس أمانته العامة، والحزب أحد تشكّلات التشيع السياسي، الذي ولد كردة فعل على انتشار الشيوعية في العراق، في منتصف الخمسينيات، بعد نجاح انقلاب عبد الكريم قاسم، فقد شكل رجال الدين من الصف الثاني في الحوزة العلمية لجنة تباحث، خرجت بمقترح أن يتم تأسيس حزب سياسي دعوي، قادر على لجم الزحف الأحمر في المجتمع العراقي، وكان للسيد محمد باقر الصدر الفضل في هندسة أيدولوجيا الحزب، وقد أعدمه صدام حسين، لاحقاً، بسبب قيادته المظاهرات ضد نظام البعث، وهو الحزب المقابل لجماعة الإخوان المسلمين في العراق، وتأثر كثيراً بتجربة الجماعة وأسلوبها في العمل الدعوي والحركي، إذ تعتبر كتب الشيخ حسن البنا وسيد قطب من أهم الكراسات التي اعتمد عليها حزب الدعوة في تنظيره.
كان حزب الدعوة يعتمد، في سياسته، على التماهي مع المرجعية، لكسب الجمهور الشيعي، بما تمثله من مكانةٍ دينيةٍ في وجدان عامة الشيعة، وهي أعلى سلطة يمكن أن يصل إليها رجل دين شيعي، خصوصاً، بعد تثبيت علاقة المرجع بالمقلّد. في الوقت نفسه، كان الحزب يسعى إلى التمايز عنها أمام السلطة، وإظهار الاستقلال التام، لكي لا تنعكس معارضته السياسية عليها، أو مواقف مرجعية النجف، المهادنة للسلطة في غالب الأحيان، على الحزب وخطابه العام. دائماً، ما كان حزب الدعوة يسعى إلى فصل ارتباطه بالمرجعية في العلن، بالتأكيد على رفضه فكرة ولاية الفقيه، لكنه يدرك حجم نفوذها الاجتماعي والسياسي جيداً، فيعمل على استثماره، متى ما تعرّض لأزمة سياسية.
يبدو أن سياسة الحزب هذه لازالت مستمرة، فالمالكي كان يريد الظهور بمظهر رجل الدولة، القوي القادر على فرض هيبة القانون عبر مؤسسات الدولة وسلطتها، لا بالسلطة المعنوية للمرجعية الدينية، وعندما اصطدم بالحائط، وكاد داعش يقبض على العراق في ليلة ظلماء، عاد نوري المالكي وحزبه إلى استجداء المرجع السيستاني، أكبر مراجع الشيعة تأثيراً على الساحة اليوم، للتدخل وإنقاد ما يمكن إنقاذه. وقد سبق وبعث حزب الدعوة رسالة إلى السيستاني، جاء فيها "نتطلع إلى توجيهاتكم وإرشاداتكم، ونعاهدكم على أننا رهن أمركم، بكل صدق، في كل المسائل المطروحة، وفي كل المواقع والمناصب، لإدراكنا قيمة نظرتكم"، وقد استجاب السيستاني عبر ممثليه للطلب، على الرغم من تمنَّعهُ عن مقابلة المالكي، وقدم لرئيس الوزراء جوابه "بضرورة مراعاة الإجماع الوطني، وأن يكون له صولة على الفاسدين".
يتضح مما تقدم الانخراط السياسي المباشر لمرجعية النجف في العراق الجديد، على عكس السائد من عزوف فقهاء النجف عن العمل السياسي بعد فشل ثورة العشرين ضد الاحتلال البريطاني. فقد ظهر رأي المرجع السيستاني مقدماً على آراء كثيرة، منها فتواه قبل حكم بول بريمر في رفض الحكم العسكري، وفرض الانتخابات المبكرة، كما كان لمكتبه وممثليه رأياً في قضايا أخرى كثيرة يطرحها الشيخ عبد المهدي الكربلائي بصيغة الأوامر في خطب الجمعة، أو عن طريق المتحدث باسم المرجعية، السيد حسن الصافي. كما يبدو أن ضغط المرجعية بوضعها "فيتو" على ترشح المالكي قد أجبره على سحب ترشحه، وقبول ترشح حيدر العبادي، بعد فترة من التعنت، وهو ما تحدث به المتابع لشؤون المرجعية، وائل هشام، في مقاله (كيف ولماذا تنحى السيد نوري المالكي)، على الموقع الرسمي للسيستاني.
هذا الولوج في السياسة مرحب به عند شرائح شيعية كثيرة في العراق، نظراً لثقة الناس الكبيرة بها، مقارنة بثقتها بالحكومة ورئيسها وأجهزتها التي عجزت عن توفير الحد الأدنى من الحياة الكريمة للمواطنين. مثل هذا الأمر ينبغي أن يُثير قلقاً جدياً مستقبلاً، فقد أدى فشل المالكي، والنخبة الشيعية في الحكم، إلى تضييع فرصة بناء الدولة المدنية التي وعد بها حزب الدعوة جمهورَيه، العام والخاص، فتنامى شعور لدى الشيعة بعدم الاطمئنان إلى الدولة ومؤسساتها، في مقابل تعاظم الثقة في الفقيه، وقد عضَّد من هذا الشعور وجود نخب سياسية انتهازية في الطوائف الآخرى. فالأكراد لا يفوّتون فرصة للتمدد وبسط اليد على مقدرات المدن العراقية، المتنازع عليها، وكذلك عشائر أهل السُنة الذين أثبتوا أنهم مستعدون للتحالف مع الشيطان (داعش)، لكي يزيدوا من حصتهم في السلطة.
أدت هذه العوامل مجتمعةً إلى انحسار ثقة المجتمع الشيعي في الدولة ومؤسساتها، والعودة إلى حضن المرجعية الدافئ، القادر على توفير الأمان النفسي، والتدخل لإنقاد الناس في الدنيا قبل الآخرة، فتبخرت تنظيرات حزب الدعوة عن المواطنة وسيادة القانون، وطارت أحلامه طوال العقود الماضية في حكم دولة مستقلة عن سلطة الفقيه.
ويمر العراق بأحلك مرحلة في تاريخه الحديث، فقد تكالبت عليه قوى الشر منذ احتلاله، وحكمته نخبة سياسية استئثارية وانتهازية، لا يبدو أنها تفقه ألف باء السياسة ومتطلباتها، وسواء تمكنت هذه النخبة من توحيد العراق خلف حكومة وحدة وطنية، أم اتجهت أنانية الطوائف نحو نظام فيدرالي، فإن العراق الذي اعتدنا عليه انتهى.