07 اغسطس 2024
العبث الأميركي في سورية
منذ عام وربما أكثر، ومتابعون كثيرون في العالم يتساءلون، من دون جدوى، بشأن ماهية الاستراتيجية الأميركية تجاه سورية؟ ففي السادس من إبريل/ نيسان 2017، شنت الولايات المتحدة هجمات صاروخية على قاعدة الشعيرات السورية، ردا على هجمات بالأسلحة الكيميائية، شنها النظام على معارضيه في خان شيخون. ساعتها ثار الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، معلنا أن استخدام النظام الأسلحة الكيميائية خط أحمر يجب فرضه بالقوة، لا التخلي عنه كما فعل باراك أوباما. ولكن وبعد تنفيذ الهجمة، شعر كثيرون بأن الضربة جاءت رخيصة وغير مكلفة، أطلق فيها الأميركيون أكثر من خمسين صاروخا على أهداف للنظام من دون أي التزامات تذكر تجاه سورية أو مستقبلها وشعبها، وتنبأ بعضهم بأن الصواريخ الأميركية لن تردع بشار الأسد، وهو ما حدث.
وخلال العام الماضي، تكرّرت هجمات النظام بالأسلحة الكيميائية على معارضيه. وللأسف، كرّرت أميركا، بقيادة ترامب، أخطاءها، فردا على هجوم النظام بالأسلحة الكيميائية على دوما في السابع من أبريل/ نيسان الجاري، ثار ترامب على "تويتر" معلنا أن الصواريخ الأميركية قادمة، وأن على روسيا وإيران الحذر من "ثمنٍ باهظ". وبعد ستة أيام، كفيلة بإخلاء مواقع النظام والتنسيق مع روسيا وتقليل تبعات أي ضربة خارجية، أطلقت الولايات المتحدة بالشراكة مع بريطانيا وفرنسا أكثر من مائة صاروخ على عدة مواقع للنظام، يعتقد أن لها علاقة بإنتاج الأسلحة الكيميائية، والتي كانت أميركا قد فرضت على النظام السوري نزعها خلال عهد الرئيس باراك أوباما.
وكأن الإنجاز الأميركي بعد عام من الانتظار والفشل في التعامل مع النظام السوري وانتهاكاته وتوسعه بمساعدة حلفائه تمثل في مضاعفة عدد الصواريخ التي أطلقتها البوارج والطائرات
الأميركية والأوروبية على مواقع النظام في 8 أبريل/ نيسان 2017 إلى أكثر من مائة هذا العام، وذلك في غياب شبه تام لما يمكن تسميتها استراتيجية أميركية للتعامل مع النظام السوري في عهد الرئيس الحالي، دونالد ترامب، وفي ظل الواقع الجديد الذي فرضته إنجازات النظام وحلفائه على الواقع في سورية. فأوضح سياسة عبرت عنها الولايات المتحدة تجاه سورية جاءت على لسان وزير الخارجية المقال، ريكس تيلرسون، في كلمة ألقاها في يناير/ كانون الثاني الماضي في مركز هوفر للأبحاث في جامعة ستانفورد الأميركية. ساعتها عبر تيلرسون عن استراتيجية طموحة، تقوم على خمس دعائم أساسية، وهي ضمان هزيمة "داعش" وأخواتها في سورية، وعدم قدرتهم على العودة واستغلال الأراضي السورية في إعادة تنظيم صفوفهم، والتوصل إلى حل سياسي للحرب الأهلية في سورية، وفقا لقرارات الأمم المتحدة، بما في ذلك وضع دستور جديد وتنظيم انتخابات برعاية الأمم المتحدة، والحد من النفوذ الإيراني في سورية، بما يضمن عدم وصول إيران إلى تحالفاتها عبر العراق وسورية ولبنان، وصولا إلى البحر المتوسط، وضمان عودة اللاجئين والمهجرين السوريين إلى أراضيهم، وأخيرا ضمان بقاء سورية خالية من أسلحة الدمار الشامل.
وقد تطلبت تلك السياسة، وفقا لتيلرسون نفسه التزاما أميركيا طويل المدى تجاه سورية تمثل في الحفاظ على وجود مفتوح للقوات الأميركية هناك، وتقديم مساعدات مالية لإعادة بناء المناطق المحرّرة من النظام و"داعش" ومساعدة القوى المحلية في تلك المناطق على إعادة توطين الأهالي واللاجئين وإصلاح المرافق وتقديم الخدمات الأساسية، وكذلك الحفاظ على مناطق خفض التصعيد، والضغط على روسيا لإرغام النظام على القبول بمفاوضات جنيف برعاية الأمم المتحدة والتعاون مع حلفاء أميركا كتركيا في قضايا مكافحة الإرهاب. ولكن ترامب عصف بتلك السياسة نهاية شهر مارس/ آذار الماضي حين أعلن، بشكل مفاجئ في كلمة ألقاها أمام أنصاره في ولاية أوهايو، عن رغبته في سحب القوات الأميركية من سورية "قريبا جدا"، وترك المشكلة السورية "لآخرين ليعتنوا بها"، معتبرا أن مهمة بلاده الأساسية هناك كانت هزيمة "داعش"، وهو ما تحقق تقريبا وفقا لوجهة نظره.
منذ ذلك الحين، قرّر ترامب تجميد 200 مليون دولار من المساعدات الأميركية الموجهة إلى جهود إعادة الإعمار، كما طالب خطابيا دولا أخرى كالسعودية بتحمل تكاليف إعادة الإعمار وضمان استقرار سورية في مرحلة ما بعد "داعش".
وفي هذا السياق، جاء رد فعل ترامب الغاضب على الهجمات الكيميائية على دوما وكأنه في عزلةٍ عن بقية مواقفه، أو كمحاولة لتحقيق مكسب سياسي شخصي سريع، وتشتيت الانتباه عن مشكلاته الداخلية، وإثبات أنه يقف للروس ويعارضهم في ظل التحقيقات القانونية الجارية بشأن علاقة حملته الانتخابية بمسؤولين روس. حيث شن ترامب هجوما واسعا على النظام وروسيا على وسائل التواصل الاجتماعي، وتحديدا على "تويتر"، منذرا بسرعة الانتقام الأميركي، ومحذرا الروس والإيرانيين من "ثمن باهظ". ولكن لم تأت الهجمات الأميركية سريعا، بل تأخرت ستة أيام، وجاءت محدودة، وغالبا بالتنسيق مع روسيا، أو على الأقل تحذيرها، وسرعان ما أعلن ترامب، بعد إطلاق الصواريخ الأميركية، أن المهمة انتهت. وأعلن البنتاغون أن المهمة كانت محدودة، ولا تتبعها هجمات أخرى، وكأنهما يحاولان تهدئة الأوضاع، وامتصاص غضب روسيا، وضمان محدودية رد فعلها.
وبهذا خرجت الضربة الأميركية على سورية من مجال الاستراتيجية والسياسة إلى مجال
التنفيس عن لحظات غضب الرئيس ترامب، ونزعاته الشخصية وتسرعه في الإعلان عن مواقفه، وعدم قدرته على التحكم في خطابه وردود أفعاله، فبدلا من أن يسعى ترامب إلى إعادة صياغة مواقف بلاده تجاه سورية بشكل متكامل، والإعلان عنها في الوقت وبالأسلوب المناسبين، تسرع كالعادة في الإعلان عن مواقفه الغاضبة على وسائل التواصل الاجتماعي، من دون التنسيق مع قادة إدارته وحلفائه، والذين سارعوا بالتحكم في ردود أفعاله، وإعادتها إلى أرض الواقع، لينتهي الأمر بعدة ضربات محدودة الأثر، وربما تمثل انتصارا سياسيا إضافيا لنظام الأسد. فبعد كل الإنجازات التي حققها النظام السوري على أرض الواقع خلال العام الماضي، بمساعدة روسيا وإيران، ما زالت الولايات المتحدة تفتقر لاستراتيجية واضحة، واقتصر رد فعلها على استخدام النظام الأسلحة الكيميائية على عدة هجمات صاروخية، وكأنها تقبل بقية سياسات النظام، وما تتضمنه من قتل واسع بالأسلحة التقليدية وتهجير قسري وانتهاكات صارخة لحقوق الإنسان وتثبيت أقدامه، وأركان حكمه، في ظل إعلان ترامب عن رغبته في سحب قواته من سورية في أسرع وقت ممكن.
لن تكون المواقف الأميركية السابقة بلا تبعات مستقبلية، فهي تعبر عن استمرار الانكفاء الأميركي على الذات، وتراجع الاهتمام الأميركي بالمنطقة، وتفتح الباب على مصراعيه أمام قوى أخرى لملء الفراغ الناجم عن هذا التراجع، وتحمل ما يفرضه من تكاليف مالية وعسكرية وسياسية باهظة من ناحية، وتحمل كذلك ما يترتب عليه من تحول سورية إلى ساحة تناحر إقليمي لا يهدأ بين قوى كإيران وتركيا وإسرائيل والسعودية.
كما يترك التراجع الأميركي المضطرب، والمفتقر للاستراتيجية، حلفاء أميركا في المنطقة، كالأكراد والعرب السنة، في مواقف لا يحسدون عليها، بعد ما قدموا من تضحيات باهظة خلال الصراع السوري المدمر، ولشعورهم بالانكشاف وعدم الثقة في القيادة الأميركية، وإمكانية أن يتعرّضوا لمزيد من الخسائر العسكرية والسياسية، في غياب القيادة والاستراتيجية الأميركية، وفي ظل صراع إقليمي هائل ومكلف، لن يتوقف قريبا.
وخلال العام الماضي، تكرّرت هجمات النظام بالأسلحة الكيميائية على معارضيه. وللأسف، كرّرت أميركا، بقيادة ترامب، أخطاءها، فردا على هجوم النظام بالأسلحة الكيميائية على دوما في السابع من أبريل/ نيسان الجاري، ثار ترامب على "تويتر" معلنا أن الصواريخ الأميركية قادمة، وأن على روسيا وإيران الحذر من "ثمنٍ باهظ". وبعد ستة أيام، كفيلة بإخلاء مواقع النظام والتنسيق مع روسيا وتقليل تبعات أي ضربة خارجية، أطلقت الولايات المتحدة بالشراكة مع بريطانيا وفرنسا أكثر من مائة صاروخ على عدة مواقع للنظام، يعتقد أن لها علاقة بإنتاج الأسلحة الكيميائية، والتي كانت أميركا قد فرضت على النظام السوري نزعها خلال عهد الرئيس باراك أوباما.
وكأن الإنجاز الأميركي بعد عام من الانتظار والفشل في التعامل مع النظام السوري وانتهاكاته وتوسعه بمساعدة حلفائه تمثل في مضاعفة عدد الصواريخ التي أطلقتها البوارج والطائرات
وقد تطلبت تلك السياسة، وفقا لتيلرسون نفسه التزاما أميركيا طويل المدى تجاه سورية تمثل في الحفاظ على وجود مفتوح للقوات الأميركية هناك، وتقديم مساعدات مالية لإعادة بناء المناطق المحرّرة من النظام و"داعش" ومساعدة القوى المحلية في تلك المناطق على إعادة توطين الأهالي واللاجئين وإصلاح المرافق وتقديم الخدمات الأساسية، وكذلك الحفاظ على مناطق خفض التصعيد، والضغط على روسيا لإرغام النظام على القبول بمفاوضات جنيف برعاية الأمم المتحدة والتعاون مع حلفاء أميركا كتركيا في قضايا مكافحة الإرهاب. ولكن ترامب عصف بتلك السياسة نهاية شهر مارس/ آذار الماضي حين أعلن، بشكل مفاجئ في كلمة ألقاها أمام أنصاره في ولاية أوهايو، عن رغبته في سحب القوات الأميركية من سورية "قريبا جدا"، وترك المشكلة السورية "لآخرين ليعتنوا بها"، معتبرا أن مهمة بلاده الأساسية هناك كانت هزيمة "داعش"، وهو ما تحقق تقريبا وفقا لوجهة نظره.
منذ ذلك الحين، قرّر ترامب تجميد 200 مليون دولار من المساعدات الأميركية الموجهة إلى جهود إعادة الإعمار، كما طالب خطابيا دولا أخرى كالسعودية بتحمل تكاليف إعادة الإعمار وضمان استقرار سورية في مرحلة ما بعد "داعش".
وفي هذا السياق، جاء رد فعل ترامب الغاضب على الهجمات الكيميائية على دوما وكأنه في عزلةٍ عن بقية مواقفه، أو كمحاولة لتحقيق مكسب سياسي شخصي سريع، وتشتيت الانتباه عن مشكلاته الداخلية، وإثبات أنه يقف للروس ويعارضهم في ظل التحقيقات القانونية الجارية بشأن علاقة حملته الانتخابية بمسؤولين روس. حيث شن ترامب هجوما واسعا على النظام وروسيا على وسائل التواصل الاجتماعي، وتحديدا على "تويتر"، منذرا بسرعة الانتقام الأميركي، ومحذرا الروس والإيرانيين من "ثمن باهظ". ولكن لم تأت الهجمات الأميركية سريعا، بل تأخرت ستة أيام، وجاءت محدودة، وغالبا بالتنسيق مع روسيا، أو على الأقل تحذيرها، وسرعان ما أعلن ترامب، بعد إطلاق الصواريخ الأميركية، أن المهمة انتهت. وأعلن البنتاغون أن المهمة كانت محدودة، ولا تتبعها هجمات أخرى، وكأنهما يحاولان تهدئة الأوضاع، وامتصاص غضب روسيا، وضمان محدودية رد فعلها.
وبهذا خرجت الضربة الأميركية على سورية من مجال الاستراتيجية والسياسة إلى مجال
لن تكون المواقف الأميركية السابقة بلا تبعات مستقبلية، فهي تعبر عن استمرار الانكفاء الأميركي على الذات، وتراجع الاهتمام الأميركي بالمنطقة، وتفتح الباب على مصراعيه أمام قوى أخرى لملء الفراغ الناجم عن هذا التراجع، وتحمل ما يفرضه من تكاليف مالية وعسكرية وسياسية باهظة من ناحية، وتحمل كذلك ما يترتب عليه من تحول سورية إلى ساحة تناحر إقليمي لا يهدأ بين قوى كإيران وتركيا وإسرائيل والسعودية.
كما يترك التراجع الأميركي المضطرب، والمفتقر للاستراتيجية، حلفاء أميركا في المنطقة، كالأكراد والعرب السنة، في مواقف لا يحسدون عليها، بعد ما قدموا من تضحيات باهظة خلال الصراع السوري المدمر، ولشعورهم بالانكشاف وعدم الثقة في القيادة الأميركية، وإمكانية أن يتعرّضوا لمزيد من الخسائر العسكرية والسياسية، في غياب القيادة والاستراتيجية الأميركية، وفي ظل صراع إقليمي هائل ومكلف، لن يتوقف قريبا.