وتأتي هذه الطرود التي تسعى السلطات الأميركية للوصول إلى المسؤولين عن إرسالها، وسط حملة للانتخابات التشريعية المقررة في السادس من نوفمبر/ تشرين الثاني والتي قد تغير المشهد السياسي الأميركي، خصوصاً أنّ نتيجتها لا تبدو حاسمة للولاية الرئاسية لترامب.
وتوضح المؤشرات الأولية أنّ جميع المستهدفين بهذه الطرود المشبوهة تهاجمهم مواقع إلكترونية تابعة لجماعات وأشخاص من أقصى اليمين السياسي الأميركي وهم الفئة الأكثر تعصباً لترامب. وتنتقد هذه الجماعات اليمينية الساسة الديمقراطيين وبعض الوسائل الإعلامية وتراهم كأعداء للشعب الأميركي. وفي تعليقها على هذه التطورات، تساءلت صحيفة "نيويورك تايمز" عما إذا كان الخطاب السياسي في البلاد "المتوترة بالفعل" قد نما بهذا الشكل اللاذع للغاية.
وتم أول من أمس، الأربعاء، اعتراض طرود مشبوهة كانت في طريقها إلى منزل أوباما في العاصمة واشنطن ومنزل هيلاري كلينتون خارج مدينة نيويورك. وبعد ذلك تم إخلاء مكاتب محطة "سي أن أن" بمدينة نيويورك بعد العثور على عبوة ناسفة في طرد مشبوه. كذلك جرى ضبط ثمانية طرود على الأقل قبل أن تصل للمستهدفين، وبينهم إريك هولدر وزير العدل في عهد أوباما، وجون برينان المدير السابق للاستخبارات المركزية، وجورج سوروس أحد المانحين الكبار للحزب الديمقراطي، وغيرهم. وتجمع هؤلاء جميعاً انتقاداتهم الواسعة لسياسات وشخص دونالد ترامب. ولم تنفجر أي من الطرود الثمانية ولم يصب أحد بأذى.
وفي حين رجّح بعض الخبراء أن تكون الطرود غير معدة للتفجير وأنها فقط من أجل إثارة الذعر وتوجيه رسائل معينة، قال ريان موريس، مؤسس مجموعة "تريب واير"، وهي شركة تقدم تدريبات بشأن المتفجرات لمسؤولي إنفاذ القانون والمسؤولين العسكريين، إنه من خلال فحص صور لجهازين تم العثور عليهما يوم الاثنين في منزل سوروس، والشبيهة بالجهاز المرسل إلى مكتب "سي أن أن" في نيويورك، بدا أنها كانت "أجهزة حقيقية وقد تتسبب في إصابة جسدية خطيرة أو الموت"، بحسب ما نقلت عنه "سي أن أن".
وعلى الرغم من عدم تحمّل أي جهة مسؤولية إرسال هذه الطرود المشبوهة إلى الآن، إلا أنّ الشكوك انصبت على أنها عمل محلي قام به أشخاص أو جماعات متعصبة من اليمين السياسي الأميركي. ووصل الأمر إلى حدّ تنديد الرئيس الجمهوري لمجلس الشيوخ الأميركي، الأربعاء، بما اعتبره "إرهاباً داخلياً" بعد إرسال الطرود. مع العلم أن استراتيجية مكافحة الإرهاب، والتي صدرت في بداية شهر أكتوبر/ تشرين الأول الحالي، أشارت إلى تصاعد وتيرة الإرهاب المحلي غير التقليدي ممثلاً في إرهاب المتطرفين العنصريين اليمينيين وتطرّف المليشيات في العديد من الولايات الأميركية. وأشارت الاستراتيجية إلى ارتفاع نسب هذه الأنواع من الإرهاب خلال السنوات القليلة الماضية.
لكنّ شبكة "إم.إس.إن.بي.سي" التلفزيونية ذكرت، أمس الخميس، أنّ مكتب التحقيقات الاتحادي "أف بي آي" يحقق في أمر منشأة بريدية أميركية في نيوكاسل بولاية ديلاوير.
ويجري مكتب التحقيقات الفيدرالية تحقيقات موسعة في ما يعتقد أنه "عمل إرهابي". وقال مدير مكتب التحقيقات الاتحادي "أف بي آي"، كريستوفر راي، في بيان: "إنّ قوة مهام مشتركة لمكافحة الإرهاب بقيادة المكتب وتضم وكالات إنفاذ القانون الاتحادية والمحلية، ستواصل العمل لتحديد هوية المسؤول عن إرسال هذه الطرود أيّاً كان".
أما الرئيس الأميركي دونالد ترامب فخرج، منذ يوم الأربعاء، ليدين هذه الأفعال ويدعو للوحدة بين الأميركيين. ومما قاله "في أوقات كهذه، علينا أن نتحد. لا يمكننا التسامح مع هذه المحاولات الجبانة. أدين بشدة كل من يختارون العنف". وشدّد ترامب على أنّ "لا مكان لأي نوع من أعمال العنف والتهديد السياسي في الولايات المتحدة".
وخلال تجمّع انتخابي بولاية ويسكونسن، استمرّ ترامب في السياق نفسه، حيث اعتبر أن ما يجري هو اعتداء على "الديمقراطية الأميركية نفسها"، مضيفاً أنّ "أي تهديد بالعنف غير مقبول ولا يمكن لأي أمة أن تنجح إذا كان هناك عنف أو تهديد بالعنف في العملية السياسية"، وذلك قبل أن يعود ويستهدف الإعلام.
إلا أنّ زعماء ديمقراطيين في الكونغرس اعتبروا أنّ دعوة الرئيس للوحدة لا تبدو صادقة بسبب تصريحاته السابقة التي تساهل فيها مع أعمال عنف، في إشارة إلى موقفه الرمادي من أحداث مدينة شارلوتسفيل بولاية فيرجينيا قبل أكثر من عام عندما لم يدن بصورة مباشرة جماعات اليمين الأبيض المتطرفة حتى مع سقوط قتيلة في مواجهات بين هذه الجماعات ومناوئين لهم.
كما ألقى بعضهم باللوم على ترامب كون خطابه السياسي يشجع على العنف بصورة مباشرة، واستدعى هؤلاء مطالبته المتكررة أثناء الحملة الانتخابية بالقبض على هيلاري كلينتون ووضعها وراء القضبان، ثم وصفه لبعض وسائل الإعلام مثل شبكة "سي أن أن" وصحيفة نيويورك تايمز بـ"أعداء الشعب الأميركي".
وفي السياق، اتهم جيف زوكر، رئيس شبكة "سي أن أن"، ترامب بتشويه صورة الصحافيين. وقال، بحسب ما نقلت عنه صحيفة "واشنطن بوست"، إنه يتعين "على الرئيس، وخصوصاً السكرتير الصحافي للبيت الأبيض، أن يفهما أيّ وقع لكلماتهما. حتى الآن لم يبديا أي فهم لهذا".
وتفاقم أخبار هذه الطرود المشبوهة حالة الاستقطاب السياسي غير المسبوق والتي تشهدها الولايات المتحدة منذ وصول دونالد ترامب للبيت الأبيض قبل عامين، وتشتدّ حدة الاستقطاب مع قرب إجراء انتخابات التجديد النصفي للكونغرس والمقرّرة في السادس من شهر نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل. من هنا لم يكن مستغرباً إقدام قادة الحزب الديمقراطي على توجيه اتهامات لترامب نفسه بإذكاء احتمالات العنف السياسي باللجوء مراراً إلى خطاب شديد التطرف وتوجيه انتقادات لاذعة لخصومه ومنتقديه من السياسيين ومن وسائل الإعلام.