لم يلتفت رئيس الحكومة التونسي، الحبيب الصيد، إلى ردود الفعل المختلفة التي أثيرت إثر تكليفه برئاسة الحكومة، وإنما توجّه مباشرة إلى الشروع في إجراء المشاورات مع مختلف الأحزاب وبعض هيئات المجتمع المدني، وذلك بغرض الاطلاع على مقترحاتها الخاصة بتشكيل الفريق الحكومي. وهذه تُعتبر من بين ما يُميّز شخصيته، باعتباره رجلاً عملياً، لا يتحدث كثيراً لوسائل الإعلام، ويحرص بحكم تكوينه الإداري على أن يكون ناجحاً وعملياً.
الصيد ليس سياسياً، ولهذا لم يتوقف الكثيرون عند الوظائف التي شغلها في عهد الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، لأنها لم تكن مسؤوليات سياسية بحكم تحصيله العلمي، إذ يجب التمييز في هذا السياق بين الدولة والنظام.
لكن مع ذلك، فإن أحد التحديات التي تواجه الصيد حالياً، يتمثّل في كونه مدعواً اليوم إلى الانتقال من شخصية التكنوقراط إلى رجل الدولة، بمعنى أنه مطالب بأن يتجاوز في هذه المرحلة بالذات دور المنفذ الجيد للتعليمات التي كان يتلقاها من السياسيين، وأن يصبح القادر على وضع السياسات، وحسن التعامل مع السياسيين والتأثير فيهم، ليتمكّن من بناء شخصية المسؤول الفاعل. فتونس اليوم في أشد الحاجة إلى رئيس حكومة قوي، قادر على الدفاع عن اختياراته، ومحاور جيد، يتمتّع بالشجاعة السياسية مع سعة الأفق والمعرفة العميقة بالواقع والملفات.
وهنا يبرز التحدي الثاني، إذ يكثر التساؤل حول طبيعة العلاقة التي ستقوم بين رئيس الحكومة ورئيس الجمهورية الباجي قايد السبسي، المعروف بكونه لا يقبل من يقاسمه السلطة، إضافة إلى تكوينه السياسي المخضرم وقدرته على إدارة الآخرين بشكل مباشر أو بصفة غير مباشرة.
ولهذا اعتبر الكثيرون أن اختيار السبسي للصيد قد خضع لعدة اعتبارات، من بينها معرفته المسبقة بأن رئيس الحكومة الجديد لن يخرج عن طوعه. لكن هذا الأمر يجب ألا يتعارض مع الدستور الذي يمنع أن تصبح الحكومة ورئيسها خاضعين لرئيس الجمهورية، وإن كانت هناك تقاطعات بين الوظيفتين، من شأنها أن تسمح لرئيس الدولة بالتدخل في بعض المجالات التي تندرج ضمن صلاحياته، ولكن من دون المساس بصلاحيات رئيس الحكومة الذي يبقى المسؤول الأول عن تنفيذ سياسات الدولة. بمعنى آخر، أصبح النظام السياسي في تونس بعد الثورة مختلطاً، لكنه أقرب إلى النظام البرلماني الذي يعطي سلطات أوسع لرئيس الحكومة، ويقطع مع النظام الرئاسي الذي أدى إلى استبداد مقيت.
التحدي الثالث أمام الصيد يتعلق بمدى قدرته على الانفتاح وإدارة الحوار مع مختلف الفاعلين السياسيين والاجتماعيين. هو مكلف من قبل حزب "نداء تونس"، لكن الوقائع كشفت عن وجود اختلافات لا تزال تتفاعل داخل هذا الحزب حول اختياره لرئاسة الحكومة.
فقد صرّح بعض كوادر الحزب بأن اختيار الصيد "لم يرتقِ إلى مستوى تطلعات التونسيين"، كما قال النائب في البرلمان خالد شوكات، ومنهم من اعتبر أن الحكومة التي هي حالياً بصدد التشكّل قد لا يتجاوز عمرها السنة الواحدة، وفق فوزي اللومي أحد مسؤولي "النداء". بمعنى آخر قد يجد الصيد بعض المشاكل من داخل الحزب الذي رشّحه لرئاسة الحكومة، على الرغم من الدعم السياسي له من قِبل السبسي.
من جهة أخرى، خسر الصيد ثقة "الجبهة الشعبية" التي رأت فيه وجهاً من وجوه النظام القديم، ومقرّباً من خصمها السياسي حركة "النهضة". وعلى هذا الأساس قررت أن تكون في المعارضة. ولا شك في أن رئيس الحكومة يشعر بالاطمئنان من جهة حركة "النهضة" التي رحّبت بتعيينه، وأكدت استعدادها لمساعدته، وهو ما يجعله مطمئناً تجاه ثاني قوة برلمانية في البلاد.
وستمثّل الجولة المكوكية للصيد بين الأحزاب اختباراً، ليس سهلاً، لمعرفة مدى قدرته على تشكيل حكومة جدية تجمع كفاءات عالية، وفي الوقت نفسه تكون مدعومة سياسياً من قِبل معظم الأحزاب الفاعلة، من دون الوقوع في المحاصصة الحزبية التي قد تعيد التجربة السيئة التي خاضتها حكومتا الترويكا.
ويبقى السؤال: هل سينجح رئيس الحكومة في صياغة برنامج حكومي يجمع بين أبرز اقتراحات "نداء تونس"، الذي سيتحمل مسؤولية هذه الحكومة، وسيُحاسب على أدائها ونتائجها، ومن جهة أخرى يتم الأخذ بعين الاعتبار وجهات نظر الأحزاب المشاركة في الائتلاف الحكومي، إضافة إلى مراعاة مطالب الحركة النقابية وبقية مكونات المجتمع المدني؟ إنها معادلة صعبة، ولكنها غير مستحيلة في سياق اقتصادي واجتماعي وأمني شديد الصعوبة والتعقيد.