10 ابريل 2019
الصومال.. العودة إلى الوراء
ما زالت دولة الصومال تتأرجح بين حربٍ وسِلم، وفقاً لاشتهاءات بعض القوى الدولية ووكلائها في القرن الأفريقي، ففي هذا البلد يعيد التاريخ نفسه باقتدار، بفعل نشاط تجار الحروب، حتى تحولت منطقة القرن الإفريقي إلى كيانات متناحرة، لتبرز سمات استمرارية الواقع الصومالي، وقضيته المبنية على الصراع التقليدي الذي تغذيه القبلية والعشائرية ويُدار بأصابعٍ خفية.
عادت الصومال إلى دائرة الضوء تحملها على فوهات المدافع عدة أحداث. الأول: الأزمة السياسية الحادة التي نجمت عن تقديم مقترح بحجب الثقة عن الرئيس الصومالي، محمد عبد الله فرماجو، إلى رئاسة مجلس الشعب، لمواجهته حملاتٍ، منها الاتفاقية مع إثيوبيا المتعلقة باستثمار الموانئ الأربعة الرئيسة في الصومال، إبان زيارة رئيس الوزراء الإثيوبي، آبي آحمد، مقديشو في يونيو/ حزيران الماضي. وقد جاءت الزيارة، وهي الأولى منذ توليه الحكم، بعد زيارة ولي عهد أبوظبي، محمد بن زايد، إثيوبيا بيوم، ما رسّخ الاعتقاد بأنّ المستثمر الممول لتلك المشاريع هو دولة الإمارات، وأنّ إثيوبيا ما هي إلّا وسيط تجاري، تسعى إلى النجاح في مهمتها، لكن الأحداث المبنية على تدخلاتها تُضعف من هذه الوساطة.
وما يرفع من درجة هذا الشك أنّ البرلمان الصومالي سبق أن أصدر في مارس/ آذار الماضي، قراراً بمنع شركة موانئ دبي من العمل في الصومال، وإلغاء جميع الاتفاقيات معها. وفق قانون يتهم الشركة بالاعتداء على السيادة والوحدة الوطنية، كون الاتفاقية لم توقعها الحكومة الفيدرالية، وإنّما وقعتها إدارة أرض الصومال (غير المعترف بها دولياً) مع شركة موانئ دبي العالمية وإثيوبيا، لتشغيل ميناء بربرة. ومن أول وهلةٍ، تبيّن أنّ الاتفاقية لن تعمّر طويلاً، نظراً لاستباقها تحركات دولٍ أخرى، ترغب في الاستثمار في المجال نفسه. والأمر كذلك، فقد كان مصير الاتفاقية أن تتحول هدفا للمنافسة، بينما تجعل إثيوبيا موضعاً للموقف المشكوك فيه.
الحدث الثاني هو إعلان الولايات المتحدة افتتاح سفارتها في مقديشو، بعد إغلاقها عام 1991. بيّنت الخارجية الأميركية أنّ هذا الحدث التاريخي يعكس التقدّم الذي أحرزته الصومال في السنوات الأخيرة، واعتبرته خطوة أخرى، بعد الاعتراف بالحكومة الفيدراليّة الصومالية عام 2013. وبينما تعود السفارة التي أُغلقت جرّاء العنف وانهيار الحكومة المركزيّة الصوماليّة، يحدث ذلك الآن بضوابط يقبلها الصومال طائعاً، فبالنسبة لدولة خارجةٍ من حربٍ طويلة، تظل العضوية في أي كيان دولي فرصةً لمنحها شرف المساواة مع بقية الدول.
ولمّا لم تكن سياسة المناورة على الطريقة الأميركية القديمة مطروحةً، سيختار الدبلوماسي دونالد يوكيو ياماموتو الذي تم تعيينه في منصب السفير الأميركي في مقديشو أسلوباً مغايراً يعتمد على التوازن، وفقاً لآليات القرن الإفريقي، فقد خبِر المنطقة، عندما كان قائماً بأعمال مساعد وزير الخارجية الأميركي للشؤون الإفريقية منذ سبتمبر/ أيلول 2017، وشغل هذا المنصب من قبل خلال ولاية الرئيس الأميركي السابق، باراك أوباما، كما سبق أن مثّل بلاده دبلوماسياً في دول القرن الإفريقي الأربع.
الحدث الثالث هو وصول الرئيس الإريتري، أسياس أفورقي، إلى مقديشو في 13 ديسمبر/ كانون الأول الجاري، في أول زيارة له منذ توليه السلطة عام 1993. وسبقتها زيارة الرئيس الصومالي إريتريا في يوليو/ تموز الماضي، ما ساهم في إذابة جليد العلاقات، وفتح فصل جديد بعد توتر نتيجة لاتهامات حكومات صومالية سابقة إريتريا بإمداد "حركة الشباب" بالأسلحة، وأحداث أخرى وقعت تحت ظلال توغل قوات إثيوبية في أراضٍ صوماليةٍ لقتال المتشدّدين.
يمكن اعتبار زيارة الرئيس أفورقي تاريخية، وجزء من القمم الثلاثية التشاورية بين رؤساء دول وحكومات إريتريا وإثيوبيا والصومال. كما يمكن رؤيتها من زاوية استنادها على إنشاء إطار تعاوني ودبلوماسي بين الصومال وإريتريا، لتعزيز الخطة المشتركة للأمن والاقتصاد والاستثمار، وما إلى ذلك مما يتم تداوله إعلامياً. ولكن كثيراً ما تتسق الخطوات في حيثيات العمل السياسي، وتحدد من خلال عرضها، فالجهود المبذولة لعملية التكامل السياسي بين دول القرن الأفريقي لا يمكنها محو تاريخ الاحتراب والتدخلات بين دول الإقليم هكذا بين ليلة وضحاها، إلّا إذا كانت هناك قوة تمسّك بخيوط اللعب، فعلى مرّ الزمن، لم يكن حصول دول القرن الإفريقي على السيادة والأمن إلّا بموافقة قوى خارجية، كما أنّ الالتزام نحو هذه القوى كان عربوناً يمكن أن يبثّ الثقة، ويحفز هذه الدول على تفكيك نُظم حكمها، بإقامة انقلابات عسكرية، أو شبه ديمقراطية إن دعت الحاجة، ليأتي المردود الحقيقي باستراتيجيةٍ أكثر ذكاء، ليس بالخضوع الواضح، ولكن بتكامل يتم اختياره على هذا الشكل، إن لم يسعفها تطبيق سياسة فرق تسد.
الحدث الرابع هو عودة الأحداث الساخنة إلى الصومال، متمثّلة في عدة هجمات، ففي شهر ديسمبر/ كانون الأول الجاري، قام الجيش الأمريكي بغارات جوية، أدت إلى مقتل عدد من حركة الشباب جنوبي الصومال، حيث تسيطر على أراضٍ ريفية وسط البلاد وجنوبها، تنفذ فيها عمليات إعدام بحق من تتهمهم بالتجسس لمصلحة الحكومة الصومالية ووكالات الاستخبارات الأجنبية، كما تقوم بتفجير السيارات المفخّخة. وقد عادت الحركة إلى نشاطها العنيف، بعد أن تم طردها من مقديشو عام 2011، وأصبحت تسيّطر على رقعةٍ واسعةٍ من الريف الصومالي. وهذه العملية هي إحدى الضربات الجوية التي تنفذها الولايات المتحدة من حين إلى آخر، دعماً للحكومة المعترف بها، والمدعومة من الأمم المتحدة، والتي تحارب ضد تمرّد حركة الشباب منذ سنوات.
وفي منطقة بيدوا، اعتقلت القوات الإثيوبية ضمن بعثة الاتحاد الأفريقي في الصومال، منتصف ديسمبر/ كانون الأول الحالي، أيضاً المرشح الرئاسي لولاية جنوب غرب الصومال مختار روبو أبو منصور، بعد اشتباكات دامية. وبعد اعتقاله، فاز عبد العزيز لفتت غرين، وزير الطاقة والمياه السابق والمقرب من الرئيس محمد عبد الله فرماجو، برئاسة الولاية. ولم تنته أحداث بيدوا التي تشهد بين حين وآخر إجراءاتٍ أمنيةً مشدّدة، حيث تناضل مختلف فصائل المقاومة والمليشيات المختلفة من أجل السيطرة عليها، لأهميتها الاستراتيجية. وقد شهدت أيضاً مقتل رئيس اللجنة الأمنية في برلمان الولاية في تبادل لإطلاق النار على إثر مظاهرات وأعمال شغب، احتجاجاً على تدخل القوات الإثيوبية في السياسة الصومالية، واستخدام الحكومة الفيدرالية لها للتدخل في الانتخابات الرئاسية في الولاية.
يبدو أنّ هذه الأحداث هي بداية لتشكّل صورة مموهة بين اللاحرب واللاسلم في الصومال، فبعد أن انقضت سنوات الحرب البائنة، وكادت أن تندمل الجراح، وأوشكت البلاد على البدء في عمليات التنمية، يأبى مارد المصالح إلّا أن يمدّ لسانه، ويطلُّ من تحت رماد الصراع، بفعل قوى إقليمية، خاضعة، هي الأخرى، إلى جبروت الأقوى منها، والتي تنأى بنفسها عن التدخل المباشر. وها هي الصومال ترضخ لإغراءات جديدة، باتت تمثّل جزءاً من ورطة محاولات إبعادها عن كابوس التحالفات الإقليمية إلى تحالف دول الجوار، فلم يكن توحيد دول القرن الأفريقي يوماً هدفاً استراتيجياً للقوى الدولية، إلّا بما يسمح بالانقضاض عليها جملة واحدة، وحينها ستكون الكارثة بحجم الهوّة التي حفرتها بأيديها.
وما يرفع من درجة هذا الشك أنّ البرلمان الصومالي سبق أن أصدر في مارس/ آذار الماضي، قراراً بمنع شركة موانئ دبي من العمل في الصومال، وإلغاء جميع الاتفاقيات معها. وفق قانون يتهم الشركة بالاعتداء على السيادة والوحدة الوطنية، كون الاتفاقية لم توقعها الحكومة الفيدرالية، وإنّما وقعتها إدارة أرض الصومال (غير المعترف بها دولياً) مع شركة موانئ دبي العالمية وإثيوبيا، لتشغيل ميناء بربرة. ومن أول وهلةٍ، تبيّن أنّ الاتفاقية لن تعمّر طويلاً، نظراً لاستباقها تحركات دولٍ أخرى، ترغب في الاستثمار في المجال نفسه. والأمر كذلك، فقد كان مصير الاتفاقية أن تتحول هدفا للمنافسة، بينما تجعل إثيوبيا موضعاً للموقف المشكوك فيه.
الحدث الثاني هو إعلان الولايات المتحدة افتتاح سفارتها في مقديشو، بعد إغلاقها عام 1991. بيّنت الخارجية الأميركية أنّ هذا الحدث التاريخي يعكس التقدّم الذي أحرزته الصومال في السنوات الأخيرة، واعتبرته خطوة أخرى، بعد الاعتراف بالحكومة الفيدراليّة الصومالية عام 2013. وبينما تعود السفارة التي أُغلقت جرّاء العنف وانهيار الحكومة المركزيّة الصوماليّة، يحدث ذلك الآن بضوابط يقبلها الصومال طائعاً، فبالنسبة لدولة خارجةٍ من حربٍ طويلة، تظل العضوية في أي كيان دولي فرصةً لمنحها شرف المساواة مع بقية الدول.
ولمّا لم تكن سياسة المناورة على الطريقة الأميركية القديمة مطروحةً، سيختار الدبلوماسي دونالد يوكيو ياماموتو الذي تم تعيينه في منصب السفير الأميركي في مقديشو أسلوباً مغايراً يعتمد على التوازن، وفقاً لآليات القرن الإفريقي، فقد خبِر المنطقة، عندما كان قائماً بأعمال مساعد وزير الخارجية الأميركي للشؤون الإفريقية منذ سبتمبر/ أيلول 2017، وشغل هذا المنصب من قبل خلال ولاية الرئيس الأميركي السابق، باراك أوباما، كما سبق أن مثّل بلاده دبلوماسياً في دول القرن الإفريقي الأربع.
الحدث الثالث هو وصول الرئيس الإريتري، أسياس أفورقي، إلى مقديشو في 13 ديسمبر/ كانون الأول الجاري، في أول زيارة له منذ توليه السلطة عام 1993. وسبقتها زيارة الرئيس الصومالي إريتريا في يوليو/ تموز الماضي، ما ساهم في إذابة جليد العلاقات، وفتح فصل جديد بعد توتر نتيجة لاتهامات حكومات صومالية سابقة إريتريا بإمداد "حركة الشباب" بالأسلحة، وأحداث أخرى وقعت تحت ظلال توغل قوات إثيوبية في أراضٍ صوماليةٍ لقتال المتشدّدين.
يمكن اعتبار زيارة الرئيس أفورقي تاريخية، وجزء من القمم الثلاثية التشاورية بين رؤساء دول وحكومات إريتريا وإثيوبيا والصومال. كما يمكن رؤيتها من زاوية استنادها على إنشاء إطار تعاوني ودبلوماسي بين الصومال وإريتريا، لتعزيز الخطة المشتركة للأمن والاقتصاد والاستثمار، وما إلى ذلك مما يتم تداوله إعلامياً. ولكن كثيراً ما تتسق الخطوات في حيثيات العمل السياسي، وتحدد من خلال عرضها، فالجهود المبذولة لعملية التكامل السياسي بين دول القرن الأفريقي لا يمكنها محو تاريخ الاحتراب والتدخلات بين دول الإقليم هكذا بين ليلة وضحاها، إلّا إذا كانت هناك قوة تمسّك بخيوط اللعب، فعلى مرّ الزمن، لم يكن حصول دول القرن الإفريقي على السيادة والأمن إلّا بموافقة قوى خارجية، كما أنّ الالتزام نحو هذه القوى كان عربوناً يمكن أن يبثّ الثقة، ويحفز هذه الدول على تفكيك نُظم حكمها، بإقامة انقلابات عسكرية، أو شبه ديمقراطية إن دعت الحاجة، ليأتي المردود الحقيقي باستراتيجيةٍ أكثر ذكاء، ليس بالخضوع الواضح، ولكن بتكامل يتم اختياره على هذا الشكل، إن لم يسعفها تطبيق سياسة فرق تسد.
الحدث الرابع هو عودة الأحداث الساخنة إلى الصومال، متمثّلة في عدة هجمات، ففي شهر ديسمبر/ كانون الأول الجاري، قام الجيش الأمريكي بغارات جوية، أدت إلى مقتل عدد من حركة الشباب جنوبي الصومال، حيث تسيطر على أراضٍ ريفية وسط البلاد وجنوبها، تنفذ فيها عمليات إعدام بحق من تتهمهم بالتجسس لمصلحة الحكومة الصومالية ووكالات الاستخبارات الأجنبية، كما تقوم بتفجير السيارات المفخّخة. وقد عادت الحركة إلى نشاطها العنيف، بعد أن تم طردها من مقديشو عام 2011، وأصبحت تسيّطر على رقعةٍ واسعةٍ من الريف الصومالي. وهذه العملية هي إحدى الضربات الجوية التي تنفذها الولايات المتحدة من حين إلى آخر، دعماً للحكومة المعترف بها، والمدعومة من الأمم المتحدة، والتي تحارب ضد تمرّد حركة الشباب منذ سنوات.
وفي منطقة بيدوا، اعتقلت القوات الإثيوبية ضمن بعثة الاتحاد الأفريقي في الصومال، منتصف ديسمبر/ كانون الأول الحالي، أيضاً المرشح الرئاسي لولاية جنوب غرب الصومال مختار روبو أبو منصور، بعد اشتباكات دامية. وبعد اعتقاله، فاز عبد العزيز لفتت غرين، وزير الطاقة والمياه السابق والمقرب من الرئيس محمد عبد الله فرماجو، برئاسة الولاية. ولم تنته أحداث بيدوا التي تشهد بين حين وآخر إجراءاتٍ أمنيةً مشدّدة، حيث تناضل مختلف فصائل المقاومة والمليشيات المختلفة من أجل السيطرة عليها، لأهميتها الاستراتيجية. وقد شهدت أيضاً مقتل رئيس اللجنة الأمنية في برلمان الولاية في تبادل لإطلاق النار على إثر مظاهرات وأعمال شغب، احتجاجاً على تدخل القوات الإثيوبية في السياسة الصومالية، واستخدام الحكومة الفيدرالية لها للتدخل في الانتخابات الرئاسية في الولاية.
يبدو أنّ هذه الأحداث هي بداية لتشكّل صورة مموهة بين اللاحرب واللاسلم في الصومال، فبعد أن انقضت سنوات الحرب البائنة، وكادت أن تندمل الجراح، وأوشكت البلاد على البدء في عمليات التنمية، يأبى مارد المصالح إلّا أن يمدّ لسانه، ويطلُّ من تحت رماد الصراع، بفعل قوى إقليمية، خاضعة، هي الأخرى، إلى جبروت الأقوى منها، والتي تنأى بنفسها عن التدخل المباشر. وها هي الصومال ترضخ لإغراءات جديدة، باتت تمثّل جزءاً من ورطة محاولات إبعادها عن كابوس التحالفات الإقليمية إلى تحالف دول الجوار، فلم يكن توحيد دول القرن الأفريقي يوماً هدفاً استراتيجياً للقوى الدولية، إلّا بما يسمح بالانقضاض عليها جملة واحدة، وحينها ستكون الكارثة بحجم الهوّة التي حفرتها بأيديها.