الصورة معنا... وضدنا

19 سبتمبر 2015
+ الخط -
هتف السوريون، في بدايات التظاهرات الداعية إلى سقوط نظام بشار الأسد، "ما لنا غيرك يا الله"، في ما هتفوا من شعارات. قد يكون الشعار، على واقعيته المريرة، تنقصه إضافة مهمة: السوريون لم يعد لديهم سوى القوة الإلهية، ومعها صور جثث أطفالهم. أطلقت صورة الطفل الجثة على شاطئ رحلة الهجرة معركة الصور بين هؤلاء المؤيدين لمقاربة إنسانية رحيمة لمشكلة تدفق اللاجئين إلى أوروبا ومن يرون فيهم مجرد مهاجرين يبحثون عن ظروف حياة فضلى وخطر محتمل على تقاليد المجتمعات الأوروبية وثقافاتها.
سجلت صورة الطفل في "نومه" الوديع على ساحل الهجرة ما لم تحققه أيٌّ من الصور المريعة في قسوتها التي تقدمها دوامة العنف في سورية. لم تفعل فعلتها صورة الأطفال "النيامى" وهم مفتوحو الأفواه، بعدما تنشقوا الغاز السام في مجزرة الكيماوي في الغوطة، والتي لا تزال الحقيقة وراء مرتكبها خفية. حركت صورة جثة الطفل الوديعة على شاطئ الموت مشاعر التعاطف الواسع لدى الرأي العام الأوروبي، لتصبح الحجة الأقوى لدى هؤلاء في النقاش الدائر حول ضرورة التمييز بين الاغتراب واللجوء الإنساني هرباً من الحروب. نافست صورة الطفل قوةً في دعم حجة الهاربين من أتون الحرب اللقطات التي تم تداولها على نطاق واسع، وتظهر مصورة صحافية تركل الأطفال وتحاول "فركشة" هروب أفواج من اللاجئين من الشرطة المجرية، وهي تلاحقهم. قالت المصورة الصحافية التي طردت من عملها، بعد تداول الصور على نطاق واسع، إنها ليست عنصرية، إنما شعرت بالرعب من تدفق أعداد كبيرة من الناس حولها، وهي لا تفهم سبب ردة فعلها العنيفة. صارت المصورة، من دون أن تقصد، رمزاً لمشاعر العداء للأجانب من مهاجرين ولاجئين المتنامية لدى الرأي العام الأوروبي، والتي ترى في هؤلاء خطراً على أمنها، وعلى ثقافاتها، من احتمال تمدد التطرف الإسلامي في الجسم الأوروبي.
إنها، إذن، صورة مقابل صورة. صور الذبح والحرق وغيرها من وحشية القتل على يد جماعة داعش، والتي تؤكد فرضية الشرق "البربري" مقابلها صور موت أطفال مسالمين ومأساة البرد والجوع والتشرد التي تمنح هؤلاء اللاجئين وجهاً إنسانياً بعيداً عن الصورة النمطية لمتطرفين ينشرون الرعب. ولعل مذكرة التعليمات التي أصدرتها إحدى قنوات التلفزة المجرية، وفيها تطلب من مراسليها عدم التقاط صور الأطفال في تغطية أزمة تدفق اللاجئين، تشكل التعبير الأقوى على الدور السياسي الذي تؤديه هذه الصور، في ترجيح كفة المتعاطفين مع اللاجئين على المتوجسين منهم.
باتت صور الأطفال اللاجئين تتصدر غلافات الصحافة الغربية، حتى اليمينية منها، إذ قررت الصحافة البريطانية نشر صورة جثة الطفل على الشاطئ، ولو أنها خادشة للمشاعر ومخالفة للقواعد المعمول بها في التعامل مع صور العنف التي تظهر أطفالاً. برّرت الصحف نشر الصورة بتداولها الواسع على وسائط التواصل الاجتماعي، ما يجعل حجبها أمراً غير ذي تأثير. كما اعتبرت أن عدم نشر الصورة نوع من التعمية على حقيقة إنسانية بشعة، باتت لصيقة بأزمة الهجرة، وتصاعد دوامة العنف وعجز المجتمع الدولي عن وقفها، أو لامبالاته بها.
أثارت صورة الطفل الضحية فيضاناً من الصور التي استوحت من موته الهادئ تعبيرات متنوعة عن مأساة الحروب والهجرة، أكثرها إثارة للجدل رسوم كاريكاتورية للأسبوعية
الفرنسية الساخرة "شارلي إيبدو" تمثل غرق الطفل على الشاطئ الأوروبي. مجددا، تصاعدت الأصوات المستنكرة لما اعتبرته عنصرية متجددة لدى المجلة الفرنسية الشعبوية، ونزوعا للسخرية إلى مجالات لا تحتملها سخرية كهذه، مثل موت الأطفال. في حين اعتبرت المجلة أن الرسوم لا تسخر من الأطفال الغرقى أنفسهم، ولا من هجرتهم، بل من سياسة مناهضة الهجرة في أوروبا والنزعات الاستهلاكية الغربية التي لا ترى في محنة اللاجئين سوى فرصة للتكسب. في كل الحالات، خلت الرسوم الكاريكاتورية من الذوق، كما اعتبر آخرون في تقديرهم أن الرسوم الكاريكاتورية ليست مثيرة للضحك على الإطلاق.
في المقلب الآخر، تنافس بعض الأمثلة من شاشاتنا بنجاح ما اعتبر موقفاً عنصرياً من المجلة الفرنسية الساخرة في التعاطي مع مأساة اللاجئين. مقدمة البرامج المصرية ريهام سعيد تسأل والد الطفل الغريق في مقابلة تلفزيونية: "إنتا عايز تهرب من سورية ليه؟ هو داعش بيقتلوا الأطفال؟" يرد عليها الأب إنها لا شك لا تتابع ما يجري على الإنترنت، ولا تعرف حجم مأساة الشعب السوري. ولعل مقدمة البرامج، وأمثالها كثيرين من "نجوم" الشاشات الدعائية، لا تتابع غير طبول الدعاية السمجة التي تقدمها ليل نهار.
قدمت التغطية الإعلامية لمعظم الإعلام الغربي الوجه الإنساني للاجئين أفراداً، لا مجموعات، مع إعطاء حيز واسع لقصص هؤلاء في رحلة اللجوء المريرة. جاءت هذه المقاربة الإنسانية لتحدث توازناً مع المقاربة العملانية الصارمة، والفجة أحياناً، للسياسة، ومنها تشبيه رئيس الوزراء البريطاني، ديفيد كاميرون، تدفق المهاجرين بالجحافل، وتصريح وزير خارجيته أن من شأن ملايين الأفارقة "المغيرين" على أوروبا أن يشكلوا خطراً على مستوى الحياة الأوروبية ومعاييرها. وهي تغطية تدحض الكلام عن "عنصرية" الغرب في وقتٍ أفردت صحفه، بيسارها ويمينها، مساحات واسعة، لمتابعة مأساتهم، وعبر المراسلون إلى جانبهم طرقات الهروب إلى الغرب، إلى حد مبادرة صحف ألمانية إلى إصدار ملاحق باللغة العربية، مخصصة لمساعدة اللاجئين على فهم أساليب العيش في مدن اللجوء. التعاطف سوف يتواصل مع استمرار مفعول صور الضحايا وصور مرارة رحلة اللجوء ولا إنسانيتها.. إلى أن تدحضها صور جديدة للقتل البربري الآتي من الشرق.

A6CF6800-10AF-438C-B5B5-D519819C2804
فاطمة العيساوي

أستاذة لبنانية في جامعة إيسيكس البريطانية. ترأست بحثا في تأثير عملية الانتقال السياسي على الإعلام المحلي في دول الثورات العربية. صحافية مستقلة ومدربة وخبيرة في التشريعات الاعلامية في العالم العربي.