الصراع في ليبيا وقضايا المركزية والفيدرالية

23 ديسمبر 2019
+ الخط -
بينما تتفاقم المشكلات في ليبيا، بسبب الخلاف حول النظام المحلي الذي يعالج توزيع الثروة والسلطة، ظلت المبادرات السياسية والتوجهات الدولية أكثر اهتماماً بالجدل بشأن شروط الحكم المركزي. ويثير تطلع المطالب في برقة والمكونات الثقافية نحو الفيدرالية أو الحكم الذاتي التساؤل حول العلاقة بين النظام المحلي والاستقرار السياسي، من خلال مناقشة التركيبة الاجتماعية ومدى الاستجابة لتطلعاتها في قضايا المشاركة في السلطة والثروة.
وفي ظل تصاعد الصراع المسلح، تمكن ملاحظة وجود نمط من الصراع المتداخل بين ثلاثة مستويات، الحكومات والجماعات المسلحة، التدخل الدولي والكيانات المحلية، ظهرت تعقيدات ميراث ما بعد الاستقلال، عندما وقفت ثورة فبراير عاجزة عن المضي باتجاه حل معضلة الجهوية والتكامل القومي، ولم تمثل مركزية طرابلس مشكلةً في المراحل الأولى للثورة، ولكن غياب تصوّر لحدوث انتقال سياسي يعالج المشكلات الديمغرافية وتوزيع الثروة كان عاملاً رئيسياً في ظول الفترة الانتقالية، وظهور المطالب الفيدرالية والحكم الذاتي.
اختلاف السكان والموارد
فيما تتركز الموارد النفطية والمياه في مناطق قليلة السكان، يتركّز السكان في مناطق أخرى، وقد فاقمت الحرب الأهلية من اختلال توزيع السكان والموارد، وفي طرابلس يعيش2.7 مليون نسمة من إجمالي 6 ملايين، بسبب توافد النازحين من الجنوب وبنغازي، كما زادت الأعباء الاقتصادية بسبب انخفاض كفاءة قطاع النفط، وهو ما يفسّر تركز الناس حول السلطة والوظائف الإدارية، حيث تحظى المناطق القريبة من الحكومة بمعاملة تفضيلية في الطاقة 
الاستيعابية للخدمات العامة. ومن وجهة التوزيع الطبيعي للسكان، تشهد ليبيا حالة اختلافٍ في تجانس الموارد والسكان. وبمرور الوقت، ساهم في اتساع الروح القبلية والجهوية على العلاقات بين المجتمع والسلطة، وعلى مدى التاريخ الحديث، تم استدعاء القبيلة للاضطلاع بدور سياسي لحساب السلطة، بشكلٍ راكم النزعة المحلية، كما ساهمت التقلبات السياسية في ربط الوعي الوطني بالمحلية، فقد شكّل الانتقال من الملكية للجماهيرية واحدا من أهم معوّقات التحديث والتكامل الوطني.
وعلى مدى فترة ما بعد معمر القذافي، تعثّرت محاولات تحديث المجتمع المدني، وإيجاد مفهوم مشترك تجاه العلاقات الإثنية. ومن جهته، بدأ "تحالف القوى الوطنية" محاولة مبكّرة لتكوين شبكة من الجمعيات الأهلية، لتكون أساس الانتقال السياسي. وبجانب هذه المحاولة، نشأت منظمات عديدة من المجتمع المدني، وانشغلت بعدة مجالات كالتدريب والتثقيف والمرأة. وتحت عدم الاستقرار السياسي، تراجع دور المؤسسات الجديدة، بسبب تصارع الأحزاب السياسية والمجموعات المسلحة وتزايد نفوذ القبائل.
ولعله من النتائج الأساسية للحرب الأهلية ما يتعلق بتفكك البنية التحتية وتفسّخ النسيج الاجتماعي، فمن جهةٍ زاد الصراع على السيطرة على المؤسسات المحلية في كل المدن. ومن جهةٍ أخرى، تراكمت التشكيلات العسكرية، وهو ما دفع باتجاه احتكار المقوّمات المحلية وعزلها عن الحكومة، لم يقتصر هذا الأمر على الإدارة المدنية، وإنما عملت المجتمعات المحلية على تشكيل مجموعات مسلحة للدفاع الذاتي، أو الانضمام لأي من الحكومتين. وهي ظواهر ساهمت في إضعاف الوجاهة الاجتماعية لشيوخ القبائل، وتراجع تأثير المجالس القبلية.
تغير الصراع
بعد سقوط القذافي، ظهرت الفيدرالية واحدة من صياغات النظام السياسي، وهي لا تعتبر طرحاً جديداً، لكنها امتداد للسياق التاريخي والاجتماعي لإقليم برقة، بالإضافة إلى ميراث دستور
1951، حيث ساهمت الفيدرالية في تحييد الجهوية. وهناك نقاش إن النظام الفيدرالي حافظ على تماسك الدولة حتى عام 1963. ولكن مع اكتشاف النفط، حدثت تغيرات سياسية واقتصادية واجتماعية؛ تم تعديل الدستور والاتنقال إلى نظام لامركزي، وتحسن الدخل القومي وتغيرت مظاهر الحياة الاجتماعية، غير أنه نشأ، في حقبة القذافي، نظام جماهيري شعبوي أدّى إلى تعطل مسار التكامل الوطني، سواء بسبب استخدام القبيلة في الصراع السياسي أو إهمال المنطقة الشرقية.
وعلى الرغم من اشتعال الحرب والانقسام حول مشروع الدستور، كانت المبادرات السياسية أكثر اهتماماً بمعالجة الشؤون المركزية، وكان جديدها عندما اقتصرت مبادرة رئيس المجلس الأعلى، خالد المشري، على طرح الانتخابات حلا واحدا من دون الإشارة إلى المكاسب المحتملة لكل طرف، أو الشروط اللازمة للتهدئة ووقف الحرب. لا تختلف مبادرة المشري عن غيرها من المبادرات، ركزت كل إهتمامها بالحراك نحو الصراع المسلح بين الحكومات، فيما كانت قليلة الاهتمام بتطوّر الصراع الاجتماعي على الموارد المحلية.
دارت تصورات اللواء المتقاعد المتمرد، خليفة حفتر، حول محورية دور الجيش في السياسة الليبية، فقد تركّزت تحرّكاته على وضع الجيش في قمة العملية السياسية، واعتباره شأناً خاصاً به، ولا يخضع للسلطة المدنية، ولكنه كان أكثر اهتماماً بصلاحيات القائد العام ودوره السياسي. ولذلك كان أكثر وضوحاً في اجتماعه مع رئيس حكومة الوفاق، فايز السراج، في باريس في 
يوليو/ تموز 2017، عندما تحدّث عن استقلال الجيش عن السلطة المدنية. ويعد إعلان حفتر الحرب على طرابلس، الغاية الأساسية لمشروع الدولة المركزية، ولا يتصدّى للمشكلات الحقيقية للدولة، بقدر ما يعيد تركيب الخلاف حول بناء الدولة، بشكلٍ يرتّب تداعياتٍ معاكسة لتطلعات المجتمع في المشاركة في السلطة والثروة، حيث تدعم كثافة الاعتماد على الحسم العسكري إعادة الخلاف حول شكل الحكم وصلاحيات الحكم المحلي.
وتبدو الفترة الراهنة الأكثر تحدّياً لمستقبل الدولة في ليبيا، حيث يتراكم مصدران للإحباط من الوصول إلى حل سياسي يلبي شروط تماسك الدولة، لعل المصدر الأول يكمن في ارتباط الفواعل الداخلية بالعوامل الخارجية، بشكلٍ يؤدي إلى تباعد النخبة السياسية وافتراق مشاريعها السياسية والعسكرية على أسس غير موضوعية. ولعل استمرار الحرب حول طرابلس وانتشار الحرب الأهلية يفسران تضاؤل فرصة اجتماع الليبيين على مائدة واحدة. المصدر الثاني يتعلق بانتقال التنافسية الدولية من الإطار المنظم، جزئياً، عبر الأمم المتحدة، إلى إعادة تشكيل محاور وتحالفات متنافرة، ليس فقط بسبب التنافس الروسي ـ الأميركي، ولكن أيضاً، من المحتمل أن يؤدي هذا التغير إلى سوق تعريف جديد للمشكلة ومسارات حلها، ولعل القلق الدولي المصاحب لانعقاد مؤتمر برلين وتحديده معايير المشاركين الدوليين أو الليبيين، يوضح جانباً من البيئة المعقدة والمتراخية عن الحل السياسي.
تطوّر القوانين المحلية
وللاقتراب من مدى توفر الأرضية المحلية للحل السياسي، تبدو أهمية متابعة المؤشّرات العامة للنظام المحلي. وبشكل عام، يشير تاريخ المحليات في ليبيا إلى طول فترات اللامركزية المحلية فترات طويلة، حيث تتمتع المناطق بسلطة محلية واسعة، لكن في مرحلة ما بعد الاستقلال، 1951 – 1963 نشأ نظام فيدرالي، وتمت إعادة التقسيم الإداري للدولة بتعديل الدستور في 1963، وذلك لمعالجة التفاوت بين الولايات. وأدت هذه التعديلات إلى صدور المرسوم الملكي (1964/201). وتطبيقاً لهذه المادة، صدر القرار الوزاري بشأن التنظيم الإداري في 25 إبريل/ نيسان 1963، لتتضح ملامح اللامركزية، لكن بدون تعريف الشخصية الاعتبارية للتقسيمات الإدارية المحلية.
وفي ظل القانون 39/ 1975، تم إلغاء المحافظات ونقل اختصاصاتها للوزارات، بطريقة مهدت للمركزية، ومع انحراف السياسات التوزيعية، زاد التفاوت بين المناطق وفئات المجتمع بشكل راكم المشكلات الاجتماعية والاقتصادية. ومنذ تشكيل المجلس الوطني الانتقالي، حدث 
تباطؤ في تطوير النظام المحلي، بشكل ساهم في تمديد مركزية الدولة حيث لا تتمتع المحافظات باختصاصات حقيقية. وحسب قانون 59/ 2012، يكون المحافظ مسؤولاً أمام وزير الحكم المحلي (م 16)، كما يجعل المجلس الأعلى للإدارة المحلية ومجلس التخطيط الإقليمي، المواد 42 - 48، شخصية الوزير محورية.
من الناحية العملية، نشأت البلديات، فحسب قرار مجلس الوزراء 180/ 2013، لتشكل الكيان القانوني المنتخب في المؤسسات الانتقالية ووصل عددها إلى مائة بلدية، تتمتع بالشخصية الاعتبارية (م 4)‬ والذمة المالٌية المستقلة، وتختص حسب (م 5) بالإشراف على المرافق المحلية، ويكون ضمن موارد أخرى، نصيبها 10% من قمة الركاز داخل حدود البلدية. وكما تقترب هذه الصيغة من اللامركزية، فإنها تفتح الطريق لمناقشة مسألة تقاسم الثروة.
وقد أحدث مشروع الدستور، في يوليو/ تموز 2017، تقدّماً، عندما أرسى مبدأ التوازن في المالية العامة للدولة، بحيث تضمن التنسيق والتعاون بين الوحدات/ البلديات واستقلالها المالي والإداري (م 154)، كما تضمّن مبدأ التوزيع العادل والمنصف للموارد بين مستويات الحكم، الوطني والمحلي (م 164)، وليس على أساس التوزيع الإقليمي، كما لم يستطع تعريف اللامركزية في جانبها الاقتصادي، وما يتعلق بها من ميزاتٍ نسبية لموطن الثروة.
المشكلة الإثنية
ولعل قيام تصوّر الأمازيغ والطوارق والتبو على أنهم سكان ليبيا الأصليون يفسّر تبنّيهم منظورا سياسيا يتقارب مع فكرة تقاسم السلطة والثروة، وهو نمط يقوم على مبدأ التساوي الدستوري والسياسي بين الجماعات الإثنية. وفي هذا السياق، تظهر المطالبة بتماثل الحقوق السياسية والثقافية والتطلع للحصول على ميزةٍ نسبيةٍ من الموارد المحلية، فلدى الاطلاع على بيانات الجماعات الإثنية الثلاث، يمكن ملاحظة تماثل الخطاب السياسي تجاه المطالبة بإعادة بناء المؤسسات على القيم المشتركة، غير أن مقاطعة الأمازيغ المرحلة الانتقالية شكلت واحدةً من تحدّيات التكامل الوطني، كما دفعت صراعات الحرب الأهلية باتجاه نشوء مشكلاتٍ أخرى مع جماعة التبو والقبائل في الجنوب الليبي.
وبينما لم يشر دستور المملكة الليبية 1951 إلى اللغات الأمازيغية والتباوية، فإن اعتراف الإعلان الدستوري يمهد لتحديد مكانتهما في الدولة. ووفق القانون 18/ 2013، اعتبر في
مادته الأولى أن لغات الامازيغ والطوارق والتبو من المكونات اللغوية والثقافية للمجتمع الليبي، ووضعها مادة اختيارية ضمن المنهج الدراسي، كما ألزم وزارة الثقافة بالاهتمام بالشؤون الثقافية لهذه القوميات. ولكن ترافق المطالب الإثنية مع حالة التنازع على الشرعية الدستورية والاجتماعية، ساهم في التركيز على مطالبها المحلية، وهي توجهاتٌ تماثلت مع جهوياتٍ أخرى، سعت إلى البحث عن مساراتٍ بديلة، وضعت الدولة في حالة انقسام سياسي واجتماعي، وقد بدأت هذه الحالات بالانسحاب من المؤتمر الوطني، ثم مقاطعة مجلس النواب وانقسمت الحكومات، بالإضافة إلى تعطيل الهيئة التاسيسية. ومع استمرار التدهور السياسي وضعف تغلغل أي سلطة مركزية، غابت قدرة الحكومة على المواءمة بين تطلعات المكونات المجتمعية المحلية والدور المناسب للمؤسسات العامة.
وفي ظل تعثر الانتقال السياسي، ظهرت صراعاتٌ متعدّدة، منها محاولات احتكار تجارة النفط، كما تعرّضت المجالس البلدية لإبعادٍ عن الشأن السياسي، فقد لقيت مقترحاتها، في مارس/ آذار 2017، انتقاداتٍ كثيرة، على خلفية أنها مجالس خدمية وليست سياسية، كما تم حل المجالس المنتخبة في بلديات شرق ليبيا، ووضعها تحت إدارة عسكرية، لتتضافر الجهود في هدم الإدارة المحلية، وإطاحة الصلاحيات المكتسبة في المرحلة الانتقالية. وعلى أية حال، يمكن النظر إلى وضع البلديات في الوقت الراهن، وبعد تشكيلها جزءا كبيرا منها في العام الجاري، بأنها الجهة الأكثر تعبيراً عن السلطة الشرعية. ولهذا، استبعاد البلديات عن المشاركة في تقرير المسار السياسي يهدر فرصة لتوسيع النقاش بشأن موازنة الحل السياسي بين المركزية والفيدرالية، ويبقي أزمة الاندماج الوطني للحلول العسكرية والعنفية.
بشكل عام، يرتبط تعقيد المسار السياسي في ليبيا بصعوبة وجود حل حاسم للخلافات السياسية أو العسكرية، ومن ثم، فإن إدماج المكونات المحلية في الحوار السياسي، سواء حسب مقترح البعثة الأممية أو المبادرات الوطنية، يعد ضرورياً للاقتراب من صيغةٍ متوازنةٍ تراعي الحاجات المركزية والمحلية، واستمرار إهمال هذه القضايا سوف يشكّل رافداً للأزمة السياسية.
5DF040BC-1DB4-4A19-BAE0-BB5A6E4C1C83
خيري عمر

استاذ العلوم السياسية في جامعة صقريا، حصل على الدكتوراة والماجستير في العلوم السياسية من جامعة القاهرة، وعمل باحثاً في عدة مراكز بحثية. ونشر مقالات وبحوثاً عديدة عن السياسية في أفريقيا ومصر والشرق الأوسط .