الشحاذ: عندما يكتب نجيب محفوظ عن تسوّل الحياة

02 سبتمبر 2017
( الروائي المصري نجيب محفوظ، توصير: ميك نيلسون)
+ الخط -

بدايةً يجب عليّ أن أصارحك أن "الشحاذ" رواية لا يُنصَح بها لمرضى الاكتئاب، أو مَن هم على وشك الوقوع في شباك الاكتئاب؛ فهذه الرواية قد تدفعك للانتحار، أو ما هو أسوأ، وهو أنك تحيا هائمًا في دائرة مفرغة، وتمتلئ روحك بأسئلة لا أجوبة قاطعة لها في الدنيا.

يُقال إن نجيب محفوظ ترك دراسة الفلسفة كي يصبح "أديبًا"، أو بالأصح كي يبدأ في تنفيذ مشروعه الذي تبلورت فكرته في ذهنه منذ أمد: تحويل النظريات والتأمّلات الفلسفية شديدة التعقيد لأدب سهل، مفهوم، يقرأه ويفهمه كل الناس، أدب سمته الرئيسية هي كونه ممتعًا؛ فنجيب لم يكن يجد في التسلية عيبًا يجب تفاديه، كما يظن بعض أدباء الجيل الحالي، ممن يحترفون الكتابة التي لا يفهمها أحد سواهم وسوى دوائر أصدقائهم.

تُعد هذه الرواية دُرّة تاج المشروع الفلسفي/ الأدبي لنجيب محفوظ؛ حيث يتمّ صب الأسئلة الفلسفية الأكثر تعقيدًا، والتي يقضي معظم البشر حيواتهم من دون أن يجدوا إجابات لها، في قالب أدبي متماسك وممتع.


"ما معنى وجود الإنسان في الحياة، طالما أنّه سيموت؟ ثم ما معنى هذه الحياة أصلًا؟"،
تحكي الرواية قصّة عمر الحمزاوي، المحامي الناجح الذي جاءته الدنيا عند قدميه، كما يحلم بها كثيرون: جَمَع الأموال، وحقّق النجاح المهني، وتزوّج من الفتاة التي يحبّها، رغم اختلاف دينه عن دينها، وأنجب منها ابنتين في منتهى الجمال؛ لينعم بحياة أسرية مستقرة. وفجأة، ينقلب كل هذا، وتقتحم الأسئلة عالم البطل، الذي كان قد هجر الأسئلة وعالمها منذ زمن طويل.

يجلس عمر في مكتبه، يحادث أحد موكليه بخصوص القضية التي جاء له من أجلها، ويخبره أنه حتى لو استطاع أن يكسب القضية، وتصبح قطعة الأرض في حيازة موكله، فإنها قد تذهب لصالح الدولة؛ بفعل قانون "التأميم"، وطبيعة الدولة الاشتراكية. فيجيبه موكله تلك الإجابة التي ستقلب حياة عمر رأسًا على عقب:


"ليس مهمًا... المهم أن نكسبها، ألسنا سنعيش حياتنا ونحن نعلم أن الله سيأخذها؟"،
كانت هذه الإجابة بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير بالنسبة لـ عمر الحمزاوي. فدفعته لمواجهة الأسئلة التي قضى عمره في جمع المال والنجاح؛ ليتجنّب مواجهتها. هنا يبدأ الجزء المخيف في الرواية، الجزء الذي ستشعر غالبًا أنه يمسّك بشكل ما. هل تذكر تلك الصباحات المزعجة، والتي تصحو فيها خاليًا من أي رغبة في العمل، الرغبة في "الفعل" بشكل عام، ويزدحم ذهنك بأسئلة عن جدوى كل ما تفعله، جدوى العمل، جدوى البوح، جدوى الحياة ذاتها.

يُصاب عمر بفتور عام، يصدّه عن العمل، ويحرمه من القدرة على استخدام الحياة. تفقد المُتع في نظره لذتها الأوليَّة، وتصبح الدهشة كنزًا يبحث عنه في رحلة طويلة، بلا بداية ولا نهاية.

تزامنًا مع حالة الفتور هذه، يكتشف عمر أن زوجته حامل، وأن ابنته الكُبرى تكتب الشعر، وهنا يتذكر كينونته الأولى، عندما كان شابًا ممتلئًا بالحياة، والرغبة في تغيير الواقع، عندما كان يكتب الشعر ويقرأ الأدب ويتابع كل ما هو جديد في ما يخص "الفن"، قبل أن يهجر كل هذا؛ لأسباب مادية بحتة؛ لأن الشعر لا يؤكّل عيشًا، وينغمس في عالم المحاماة، وجني المكاسب المادية.

كان كل هذا إيذانًا لـ عمر كي يهجر عالمه القديم تمامًا، يهجر بيته وأسرته، ليدخل في مجموعة من المغامرات الحسيّة تارة، والمتصوّفة تارة أخرى؛ في رحلته للبحث عن معنى للحياة.

بعيدًا عن رصد معاناة فقدان الشغف التي تصيب الإنسان، وازدحام القلب بالأسئلة، والتي يرصدها محفوظ بمهارة فائقة، يبدو وجه سياسي للرواية، لا يمكن إدراكه بسهولة أو عن طريق القراءة السطحية. صدرت الرواية مطبوعة لأول مرّة عام 1965، عندما كانت ديكتاتورية نظام جمال عبد الناصر في أشدّها، منتصف الستينيات، عندما ظنَّ الناس أن الوضع القائم سيستمر للأبد، حتى إن بعضهم قد أخذ يشكك في إمكانية وفاة جمال عبد الناصر كباقي البشر الطبيعيين، عهد الرجل الواحد، والقرار الواحد، والصوت الواحد، ومن يخالف هذا، يجد في المعتقل أو القبر متسعًا لأحلامه. في ظل هذه الأجواء، يفقد الإنسان القدرة على الاختيار، وبالتبعية، القدرة والرغبة في الفعل، في الحياة ذاتها. وما جدوى الحياة وهم يختارون ويقرّرون لنا كل شيء؟ تظهر هذه الإشارة جليَّة في المشهد الذي يُعتبَر نقطة التحوُّل في حياة بطل الرواية: سنكسب القضية، ونمتلك الأرض، وتأتي الدولة لتسلبنا إياها بقرار لا يمكننا الاعتراض عليه. فما فائدة كل هذا إذا؟

قد يعيب الرواية التفلّسف الزائد للحوار في بعض المواضع، ما قد يُفقِدها الوضوح، لكنها تظلّ عملًا إنسانيًا رفيع المستوى. نصٌ أدبي أنيق عن تسوُّل الحياة، والسعادة، والشغف، والذي هو أسوأ بمراحل من تسوُّل المال من الناس على قارعة الطريق. هذه هي سيرة "الشحاذ"، والذي ينهي روايته بتساؤل صارخ، يُلخّص من خلاله معاناته وضياعه في عالم الأسئلة:

"إن تكن تريدني حقًا، فلِمَ هجرتني؟!".

كتبه: 

المساهمون