الشجن العراقي

01 ديسمبر 2018
+ الخط -
أبهجنا الضيف الجديد حين حضر لبيتنا بعد أن ابتاعه المرحوم والدي من حلب وكأنه قد جلب إلينا الدنيا وما فيها، خاصة أنه ياباني الصنع ومن إنتاج شركة "توشيبا" ذائعة الصيت.

التفّت الأسرة والجيران حوله متابعين، بشغف، ما يصدر عنه من نقل لأحداث الدنيا من أفراح وأتراح، وكان مزهواً باقتنائه. فأجهزة الراديو آنذاك قليلة خصوصاً أنه كان عاشقاً للطرب العراقي الأصيل ورموزه. الطرب الذي شكّل مدرسة عريقة منذ إبراهيم الموصلي وزرياب فها هو "الخضيري أبو عزيز"، وبحرقة ووجع شديدين، يبث أشجانه: "على درب اليمرون/ اريد اكَعد وانادي. ريت احبابي يعودون/ متكَلي يا حادي" وحين انتهى الخضيري جاء دور "داخل حسان" و"أبو دياته" عبر إذاعة بغداد بذاك الزمن الجميل: "ولو عينك تصل كَلبي وتارا/ وتارا سيوفك كَطعت منّا وتارا".

المجتمعون صافنون، والبعض منهم تهل أعينهم دمعاً مسترسلاً ولكل منهم أسبابه فالشجن الذي تبثه إذاعة الرافدين أثار شجوناً وحرقة على من فرّقهم البين وأدمى قلوبهم. وحين تنتهي حلقة برنامج صوت البادية وتعلن الإذاعة العراقية ختام برامجها بالنشيد الوطني يتفّرق الصحب والحسرات ترافقهم كظلهم.


عندها قصّ علينا والدي محنة الخضيري وسبب أوجاعه ونوحه والغادرات من الأيام التي أصابته غيلة، وحين سألته عن سبب اهتمامه بالأغنية العراقية ولماذا تثير الحزن لدى سامعيها قال بحماس: "هي هكذا دائماً متّشحة بالسواد والنواح والحزن، وذلك بسبب النوائب التي تصيب أهل العراق على الدوام، فهم مبتلون بالحكام القساة وببطشهم عبر التاريخ المديد، وكربلاء لم تكن استثناء، فعراق العراقة كان دائماً على موعد مع الأسى والحزن".

هنا وددت أن أسأله عن رحلة أجدادي الطويلة والتي بدأت من حويجة العبيد بكركوك العراق إلى محطتهم الأخيرة على الضفة الشرقية من نهر الفرات عند مدينة جرابلس السورية فرد موضّحاً: "هي قصة طويلة لكنها وباختصار شديد أن أجدادنا هم من العرب الرُّحل حيث يعتاشون على خيرات الحلال. والحلال دائماً تحتاج للماء والكلأ. وهذا ما جعلهم ككل العرب المعتاشين على عوائد الاقتصاد الرعوي حيث يقطعون السهوب بحثاً عن ماء ومرعى. وحين اقتربوا من الفرات وجدوا ضالتهم فاستقروا وبنوا حاضرتهم والتي تسمى اليوم بقرية الشّيوخ".

عدت مرة أخرى لأساله عن سبب زيارة الناس قبر حمد الحسّان، الذي زرته وأنا طفل غض، حيث استهوتني تلك الخرق القماشية الخضراء التي تُعقدها النسوة على شاهدي قبره، حيث تظن تلك النسوة أن من يفعلها يُثاب. ولذلك كان أهل الشيوخ يحلفون به كثيراً، فيقول أحدهم حين يضيق به الزمن حالفاً: "يا حمد الحسّان يا ساكن الرملة!"، وكأنهم ينادون عليه لنجدتهم، فهم يزورونه حين تضيق بهم الأيام، وتكثر المحن، خاصة النسوة اللواتي يرتجين حملاً وإنجاباً خشية الأزواج الذين يبتغون أية حجة للزواج مرة أخرى طلباً للنسل والذريّة.

رد والدي مبيناً لي مدى محبة أهل الشّيوخ لجدنا حمد الحسّان والتقرب إليه لأجل الحصول على بركاته حيث يرون بشخصه أحد أولياء الله الصالحين، فلقد كان شديد التّقوى طيب القلب وجوّاداً سخياً لا يرد لمحتاج طلباً.

وحينما اقتربت السهرة من نهايتها احتضنت المذياع بين ذراعيّ، وبكل ما لدى الطفولة من براءة وعفوية لأغفو على أحلام علّه سينقلني إليها بساط الريح هذا! والذي ستربطني به لاحقاً علاقة عشق وهوس، لم تبرحني، وقد بلغت الآن العقد السادس، فللمذياع سحره ومدمنوه.
B3B9992A-7FF9-4929-A335-A7E6C89340AB
B3B9992A-7FF9-4929-A335-A7E6C89340AB
مصطفى الدروبي
مصطفى الدروبي