الشتائم.. هل من فوائد لأن تكون "سيئاً"؟

02 ديسمبر 2019

(مروان قصاب)

+ الخط -
الشتيمة رسالة غضبٍ واستهزاء. وينوس الشتم الذي يتوسل اللغة أداةً، بين حالة الستر، فلا يلفظه اللسان، ولكن يفصح به الحال والبيان، وبين التشبيهات الساخرة والكلمات الفاضحة المباشرة. كما تتوسّل الشتائم بالحركات والإيماءات التي تختلف مدلولاتها من ثقافةٍ إلى أخرى، حد التناقض أحياناً (قد لا يثير رفع الإصبع الأوسط في بعض الثقافات ما يثيره رفع الإبهام مثلا أو العكس).
في مجرى العدوان الدفاعي، حتى الطفل يلجأ إلى الشتائم، بقدر ما تتيحه له محصّلته اللغوية المكتسبة ونموه المعرفي، في مواجهة الظلم أو القسوة. والشتائم تشغل حيّزا كبيرا في الموروث الثقافي الشفوي للشعوب، مع الإقرار بنسبيتها كمّا وكيفا، تبعا لاختلاف ظروف الزمان والمكان والثقافة. إنها الوسيلة المتوفرة لانتهاك التابوهات الاجتماعية، سيما ذلك "الثالوث المحرّم"، بتعبير الراحل بو علي ياسين، من جنس وسياسة وأنماط تدين متشدد.
ويؤكد علم النفس، اليوم، أننا جميعنا نشتم يوميا، مستخدمين في المتوسط عشر كلمات عنيفة، تختلف من شخص إلى آخر، بما فيها الشتائم التي تقترحها أحيانا الحميمية بين الأصدقاء المقرّبين، فسلوك الشتيمة، وفق الدراسات النفسية الحديثة، خصلة أصيلة في الإنسان، تحافظ على استقلالها النسبي عن اللغة، حتى أن في وسع الذين يعانون عطبا في أجزاء الدماغ المسؤولة عن اللغة الاستمرار في الشتم بطلاقة. ويذهب عالم النفس، ريتشارد ستيفن، في كتابه "النعجة السوداء: الفوائد الخفية لأن تكون سيئا"، أن سلوك الشتيمة من علامات ارتفاع معدّل 
الذكاء، متجلّيا في قدرة الفرد على التعبير عبر التهكم والسخرية، وتسمح بتفريغ الكبت، مانحا العواطف والمشاعر فرصة للانطلاق، وجرأة الخوض في أمورٍ شائكة، يتعذر الخوض فيها، بعد حذف كلماتٍ بليغةٍ من القاموس اللغوي. ولكن علماء النفس الحريصين على فرص التكيّف بين الفرد وبيئته الاجتماعية، وعدم إيذاء الآخرين، والذين يدركون، مع ذلك، الآثار السلبية لضبط النفس أكثر من اللازم، يوصون باللجوء إلى اللغة الوصفية، بدلا من الكلمات المباشرة القاسية.
وأعلن ستيفن أيضا عن تجربةٍ قام بها، وفريقه من جامعة كيل البريطانية، أكدت نتائجها وجود علاقةٍ بين الشتم وتسكين الألم، فطلب الباحثون من المتطوعين للتجربة وضع أيديهم في ماء مثلج، على أن يكرّر قسم منهم كلمة تدلّ على شتيمة، بينما يكرّر القسم الآخر منهم كلمة خالية من الشتيمة. استطاع القسم الأول الاستمرار في وضع أيديهم في الماء مدة تزيد عن أربعين ثانية، الأمر الذي عجز عنه القسم الثاني. يشرح ستيفن أن الشتيمة مجهودٌ وانفعال، يزيد من إفراز هرمون الأدرينالين المسكّن للألم. ولكن هذا ليس كل شيء، إذ وجدت الدراسة أيضا أن فرص تحفيز هذا الهرمون ترتفع عند الذين لم يعتادوا على الإفراط في إطلاق الشتائم، بعكس الذين اعتادوا على ذلك (بمعدل 60 شتيمة يومياً).
وبينت دراسة أجراها في الولايات المتحدة الأميركية فريق بحثٍ من جامعة ماسترخت الهولندية ارتباطا وثيقا بين الشتائم والصدق. من ذلك أن الأشخاص المتّهمين ظلما يطلقون الشتائم في
 أثناء التحقيق أكثر من غيرهم، أولئك الذين يبدون أكثر تهذيبا عندما يناورون للتستر على جرمهم. وعند تحليل بيانات النزاهة الحكومية لـ 48 ولاية أميركية، وجد الفريق أن الولايات الأقل في معدلات الشتم كانت أقل من حيث النزاهة (دراسات حديثة عديدة حول بعض فوائد سلوك الشتم، كما يتناولها علم النفس الاجتماعي وغيره من التخصصات، يمكن العودة إليها على الموقع الرسمي لمجلة "بزنس أنسايدر" الأميركية).
ولنتذكّر أن زعماءً عربا كانوا سباقين إلى اختراع شتائم دخلت التاريخ، بوصفها شهادة غير مشرّفة للاستبداد، وكان غرضهم منها تحقير وإهانة الشعوب التي انتفضت في وجه ظلمهم، استردادا لكرامتها ولحقوقها، ومطالبةً بسقوطهم، نحو: "جرذان"؛ "عصابات"؛ "مناوئون مأجورون"؛ "مندسّون"؛ "مهلوسون"؛ "جراثيم"؛ "فقاعات"؛ "شذاذ آفاق"؛ "ثورة بلاطجة وتخلف"... وغيرها. وفي لبنان، وفي غير مرة، لم يتردّد زعماء الطائفية السياسية في إطلاق تهديداتهم وشتائمهم عبر مختلف المنصات والمنابر ضد لبنانيين؛ إعلاميين، ونوابٍ، وصحافيين، وغيرهم من مواطنين من الفئات كافة.
في الشارع اليوم، وعلى مبدأ البادي أظلم، تستمر الشتائم وسيلةً للتنفيس عن الغضب الشعبي العارم، وسلاحا للمقهورين، يبدعونها ويتفنّنون بها، كأحد تكتيكات العنف الثوري المعنوية. ويعترض عديدون على أسلوب المتظاهرين اللبنانيين في التعبير عن غضبهم، خصوصا تلك 
الشتائم الجنسية التي انتشرت متضمنةً إشاراتٍ إلى الأعضاء التناسلية للمرأة، بغرض إهانة رموز سياسيين باستغلال ذويهم من نساء، والتي تكرّس برأيهم، واقع المرأة في المجتمع الذكوري الذي لا ينظر إليها بوصفها ذاتا مستقلة، بل موضوعا لثنائية العار- الشرف، إمعانا في إهانة المرأة. ولكن هذه الاحتجاجات تبدو مع ذلك أقل حدّةً، مقارنة بحدّتها تجاه أسلوبٍ في التعبير مماثل، في مناسباتٍ سابقة شبيهة، وأماكن أخرى مجاورة، شاركت فيها المرأة بشكل فردي في المظاهرات المختلطة بين الجنسين، أو فصلت المظاهرات بينهما وفق عقلية "حرملك – سلملك". مشاركة المرأة اللبنانية في هذه التظاهرات واسعةً وأساسيةً، حيث بات الشتم تكتيكا معنويا موحدا يشترك فيه الجميع، رجالا ونساء، شبيبة وشبانا، ويُعبَّر عنه بالأشكال كافة؛ المقروءة والمسموعة والمرئية.
في كل حال، يبدو أن الشتم، هذا التكتيك في العنف الثوري المعنوي، بات من أشكال الأدب المقاوم (؟).
دلالات