الشباب والانتفاضات

قد تكون أحد الإضافات الأبرز الذي قدمتها الإنتفاضات العربية، عدا الحس النقدي الجذري الذي انتاب قوى التغير الإجتماعي، حالة الحركة الجديدة داخل اليسار العربي الذي ظلّ عقودا، بعد نهاية التجربة الناصرية، خاملاً داخل قراءة ستالينية مركزية لا ديمقراطية في مستوى بنيته التنظيمية، فحركة مانيش مسامح التونسية، مثلاً، أصبحت تقدّم نفسها تياراً شبابياً جذرياً خارج سياقات التنظم اليساري التقليدي، وتحاول إعادة تعريفات أخرى للعمل اللاسلطوي (سلطوية النظام وسلطوية التنظيمات اليسارية ذاتها)، فشريحة الشباب التي ولدت داخل جو الإنفتاح الديمقراطي المرافق للإنتفاضات تتقدّم بثبات لتتصدر المشهد السياسي من جديد بعد عقود الإقصاء.
انطلق ميشيل عفلق في بناء أكبر تجربة حزبية في تاريخ الحركة التقدمية العربية، وهو لم يتجاوز سن الثالثة والعشرين مع رفيقه الشاب صلاح الدين البيطار، وجمال عبد الناصر لم يتجاوز الأربع والثلاثين، حين أطاح عرش الفاروق في مصر، ومعمر القذافي خلع إدريس السنوسي، وهو في السابعة والعشرين... جميعهم قادوا الحركة الثورية التي اجتاحت العالم آنذاك، وهم مازالوا يافعين لم يبلغوا الثلاثين عاما.
حركة التاريخ دوماً تنحو تناقضياً لردم القديم متى فقد المشروعية الموضوعية لوجوده، فكما كانت الحركات الدينية المؤدلجة في نشأتها إجابة عن عقم مشروع عصر النهضة والسقوط السياسي المدوّي لما تبقى من "الخلافة" في تركيا، كان اليسار إجابة على سؤالين: فشل الحركات التحرّرية التقليدية، كالوفد المصري أو حزب الدستور القديم في تونس وفشل اليسار التقليدي الذي نشأ داخل مناخات النضال ضد الإستعمار المباشر. لذا، نشأ اليسار الما بعد استعماري داخل ربيع اليسار العالمي، بعد الخمسينات وكان شديد الحساسية والإرتباط بتقلّبات الحركات الجذرية في فرنسا (مايو/ أيار 1968) وإيطاليا الخريف الساخن وربيع اليسار اللاتيني .
يشهد العالم الآن تشكّلا جديداً لليسار، حركة غاضبون وبوديموس وغيرها من المجموعات التي بدأت تشق طريقاً آخر داخل البنى السياسي التقليدية، وتطرح أسئلة جديدة شديدة النقد والحدّة تجاه ديمقراطيات المتروبول الرأسمالي، بدأت كما حصل قبل عقود تخلق تأثيراً على الشرائح الشبابية من طلبة الجامعات الذين فقدوا ثقتهم في اليسار العربي الكلاسيكي.
يبدو أنّ لقاء اليسار مع الشارع، وشريحة الشباب خصوصا، كان صادماً، فالإنتفاضة أحدثت رجةً كبيرة في المعايير الأخلاقية، وكلّ المنظومة القيمية، وطرحت أسئلة أكثر جذرية في علاقة بالسياسة والمجتمع. من الطبيعي أن يبحث الشباب المنتفض على تكثيفات سياسية للمضامين الإجتماعية التي انخرطوا من أجلها في النضال، إذ ذاك كان اليسار الوجهة والمحج التنظيمي لهذه الشريحة التي خرجت من ضباب الغاز المسيّل للدموع الذي ملأ شوارع المدن. هذا اللقاء الحميمي المتشح باللون الأحمر وشعارات ماركس تحوّل، مع الوقت، إلى حالة ضيق من جيل فهم السياسة داخل أقانيم الإيديولوجيا وأشكال التنظيم الممركزة التي تمنع إطلاق القدرات الخلاقة للشباب المملوء حماسةً، والمكثّف بالنزوع النقدي والرافض للسائد.
لننظر إلى هذا التيار عيانياً، حركة "مانيش مسامح" لا تخضع للمعايير التقليدية لفكرة التنظيم، فلا هي حزبية، وليس لها قيادة موحدة واضحة، كما نشهده داخل الحركات السياسية التقليدية، وإنّما حالة شحن شبابي على ملفات محدّدة مرتبطة بقانون تبييض الفساد في تونس، أو ما يسمّى قانون المصالحة الاقتصادية.
وفي مستوى آليات الحركة، تمثل فضاءات التواصل الإجتماعي المجال الأكبر للتحشيد وممارسة الدعاية ضد القانون وبرمجة أشكال الإحتجاج. أما في مستوى منتميها، فعلى الأغلب مستقلون كانوا كوادر حزبية جيّدة التكوين، غادرت حديثاً أحزابها، وتبحث عن بدائل للنشاط السياسي، أو محازبون يبحثون عن مكان داخل الشارع، نظراً لافتقار إمكانات التعبئة الذاتية.
إذا يمكننا القول إنّ هذا الشكل الشبكي الذي أثبت فعاليته، والأهم قدرته على طرح أشكال تنظيم جديدة، قادرة على استقطاب كلّ شرائح الشباب المسيّس، يتحوّل في كل معركة يخوضها شكلاً ذا مصداقية حركية وسياسية وقوة ضغط كبيرة، شبيهة بالحركات اللاسلطوية الجديدة في أوروبا وأميركا.
السؤال هنا: هل يستطيع الشباب الذي يشق طريقاً سياسياً جديداً كسر عجلة المأزق الدوري للحركة الشعبية، والتحوّل من قوة احتجاج معدومة الغطاء السياسي إلى مشروع سياسي بديل؟
هذا سؤال ذاتي، على الحركة نفسها أن تجيب عليه.