الوطنية الكروية

11 يونيو 2019
+ الخط -
العواطف المفرطة، الهيام الكروي، الاستهجان والتصفير والصراخ والتكسير والعنف الغوغائي، "الدخلات العظيمة" التي تستحضر شخصيات متناقضة من تشي غيفارا وبن لادن حتى صدام حسين، رفع الأعلام الكبيرة، تقديس الأناشيد الكروية كما لو أنها أناشيد وطنية، الانضباط شبه الحزبي لمجموعات كرة القدم... كلّ هذا يصنع من مشجعي كرة القدم كتلة شعبوية جبارة، وضعت دوماً فوق طاولة برامج التوظيف السياسي والإيديولوجي.
ألمانيا النازية سعت عبر أولمبياد 1936 لمحو عار هزيمة الحرب العالمية الأولى، في الوقت الذي كانت فيه المشاركات السوفياتية استعراضات "دعائية" للإنسان الاشتراكي الموفور الصحة والقوي والسعيد. فريق الباسك وبرشلونة وظّف جهده الرياضي في أوروبا، من أجل جمع المال للجمهوريين في الحرب الأهلية الإسبانية.
توظيف كرة القدم وصل حدّ المواجهات المسلحة بين الدول؛ ففي سنة 1969 خلال تصفيات كأس العالم المقام في المكسيك، كان تأهل السلفادور على حساب هندوراس شرارة اندلاع مواجهة مسلحة عنيفة بين البلدين دامت ستة أيام.
في مصر، قطبا كرة القدم الأهلي والزمالك، كانا تعبيرين عن الانقسام "الطبقي" داخل المجتمع المصري. ففي الوقت الذي كان فريق الزمالك فريق الأرستقراطية المصرية الثرية وصولاً إلى الرئيس حسني مبارك ونجله جمال، كان الأهلي المصري فريق الطبقة المتوسطة والضباط الأحرار (الذين كانوا أهلاويين من عبد الناصر حتى أنور السادات)، وصولاً لتحويل نجومه إلى "لاجئين سياسيين" بعد تهجير أبو تريكة إبان انقلاب العسكر على حكم أول رئيس مدني منتخب، محمد مرسي. من دون أن ننسى التوظيف العنيف لكرة القدم بعد مباراة مصر والجزائر، عبر حملة موجهة استعملها النظام لإلهاء الشعب المصري في معركة توريث جمال مبارك، وذلك في الوقت الذي كانت حركة كفاية تحشد الدعم المعارض ضد توريث نجل الرئيس المخلوع.
في تونس، كرة القدم (وهذا معلوم طبعاً) كانت جزءاً من هذا التوظيف الإيديولوجي. ومن الطُرفات التي لا تنسى، ما كانت تبثه إذاعة الجماهيرية العظمى، صوت الوطن العربي الكبير من ليبيا، تعليقاً على مباريات الدربي في تونس عن انتصار "فريق الدولة الترجي الرياضي التونسي عن فريق الشعب النادي الأفريقي"!
بعد الثورة، بعد أن كانت نوادي كرة القدم "شركات تبييض أموال" وأحياناً جزءاً من صراعات العائلات النافذة المحيطة بنظام بن علي، تحوّلت نوادي كرة القدم الكبيرة إلى وسائل تعبئة انتخابية. الرغبة الجامحة لتحويل مشجعي كرة القدم إلى أصوات انتخابية كان مثالها الأبرز، سليم الرياحي، الذي نجح في الحصول على المرتبة الثالثة في البرلمان بعد هزيمة نكراء في مرحلة انتخابات المجلس.
أخيراً، انتصار الترجي الرياضي التونسي المثير للجدل في كأس رابطة الأبطال الأفريقية، وما قيل أنه "ضغوط مغربية على الكاف"، حوّل قضية الترجي من شأن رياضي إلى مشكلة سياسية بامتياز. القضية تتجاوز كونها مسألة فساد ينخر مؤسسات الفيفا ونوادي كرة القدم! وإنما أصبحت القضية مسألة "كرامة وطنية" تتطلب تدخلاً من أعلى مستوى.
يوسف الشاهد الذي لا يتوانى عن تجاوز البروتوكول ولبس قميص المشجع (وهو أحد محبي النادي الأفريقي)، في إطار تسويق صورة القيادي الشاب المفعم بالحماسة والمتسق "بهموم شعبه" حتى الكروية منها، دخل على الخط، واصفاً قرار إعادة مباراة الترجي والوداد المغربي بالـ "مهزلة"، كاشفاً عن غضبه بشأن السبب الذي تعلل به الكاف، والذي مُسَّ به من قيمة الأمن التونسي، حسب الشاهد، مذكّراً التونسيين في الأخير بكونه "يداً واحدة". وبغض النظر عن نتيجة المباراة، فهذا التجييش المرجح أن يتفاقم، من شأنه أن يواصل هزّ علاقات مغاربية لا يجمعها واقعياً سوى مبنى الاتحاد المغاربي.
إنها كرة القدم.
A80A474B-A477-4832-8437-9DA6F0E26A9C
A80A474B-A477-4832-8437-9DA6F0E26A9C
محمد محسن عامر (تونس)
محمد محسن عامر (تونس)