الجماهير واحتجاجات تطاوين

29 مايو 2017
+ الخط -
لا أحد كان يعتقد أن الدوتشي موسوليني الذي تسلّق شرفة القصر الرئاسي في روما بحبال الحب وسط صخب الجماهير المنتشية هو نفسه الذي سيلقى مصرعه، ويعلّق بعد سنوات قليلة في ميلانو مع عشيقته، وسط بصاق ورفس الجماهير الصاخبة نفسها التي أوصلته إلى سدة الحكم.
تنظيم الهيمنة في علاقة الأنظمة مع الجماهير لا تتأسس على قاعدة الدعاية فقط، وإن كان هذا جزءاً منها، وإنما في التماهي بين خطاب السلطة وإيديولوجيا الجماهير، كأن يكون النظام حاملاً لخطاب طائفي، يختزل الجماهير، ويعبّر عنها من منطلق وعيها هي، وتمثلها للعلاقة بين أفراد المجتمع والعنف (الأنظمة الدينية وبعض الشعبويات الراديكالية التي حكمت العالم الثالث) إذ لا تكون السياسة في تجسيدها الواقعي سوى إطلاق الوعي البدائي الأسطوري اللامواطني الذي يفهم العلاقة مع الآخر والدولة والسياسة عموماً، من خلال العنف الأعمى الموجه نحو الخصوم، أو ما يسميه عالم الإجتماع البرازيلي، أرنستو لكلو، ذهنية استخدام العواطف الشعبية.
فتحت الإنتفاضة في تونس المجال للجماهير لتكتسح الساحات وتتحوّل إلى حوامل سياسية لمشاريع المتصارعين في الساحة السياسية. احتكمت كلّ القوى لهذه القوة الجبارة لفرض رؤاها على الطرف الآخر، سواء من الإسلاميين حتى بقايا النظام القديم، فيما ظلّت على الدوام مقولة إيديولوجية بالنسبة لليسار بعيدة المنال، تتوق للقائها الذي لم يحدث.
فشل أنظمة ما بعد 14 يناير في تحقيق أهداف الثورة سيدفع طبيعياً قوى الإحتجاج العفوية إلى العودة إلى الساحات، إذ لا تنخفض وتيرة العمل المطلبي "الجماهيري" ضد خيارات السلطة، حتى تنفجر من جديد من سليانة حتى تطاوين أخيراً، وظل الخيار الأمني فيها هو المحدّد .
الجماهير مقولة هلامية غير متجانسة، وليست بحال تلك المقولة "الطبقية" التي بشر بها ماركس، والتي يناط بعهدتها استبدال عنف الدولة (أداة القمع لقوى السيطرة الإجتماعية) إلى عنف الطبقة من أجل تغيير النظام. إنّها في جانب منها مقولة عمياء، لا ترى من الممكن دفعها نحو المجهول.
العلاقات الإجتماعية في تونس، وخصوصا في الجنوب، تقوم على اصطفافات "لا طبقية"، ليس المحدّد فيها توزيع العمل وعلاقات الإنتاج إلخ.. وإنما على روابط الدم والانصياع "الطوعي" لبنية مجتمعية، تقوم على الروابط العشائرية الما قبل دولتية. هذا لا يقول أنّ الشعور الوطني غائب، ولكنه تفصيل ضمن انتماء هوياوي معقد.
إنّ تفكيك بنى ما قبل الدولة أو تحييد دورها المهيمن لصالح المؤسسات الطوعية، أي المؤسسة والحزب والجمعية، كانت مهمة نظام عجز، بحكم مآزقه البنيوي، عن القيام بهذه المهمة، حتى لو رفع شعارات التحديث والأمة التونسية والعلمانية ، ويبقى السؤال: لماذا يفشل دائما الإحتجاج في كسر هيمنة السلطة؟
احتجاجات تطاوين وأيّ احتجاج في كامل مناطق تونس تعبير عن غبن اجتماعي حقيقي، وردّة فعل عفوية عن التمييز الطويل الذي عانت منه المناطق الداخلية للبلاد. ولكن الإشكال الدائم أنّ الإحتجاج لا يتجاوز حالة غضب جماهير هستيري فيخبو سريعا ويتحول إلى نوبات دورية، حتى السلطة تعوّدت عليها. بقي الفعل الإجتماعي عاجزاَ عن التحوّل إلى قوة فعل حقيقي، تغير الاحتجاج الساخط نحو ردع اجتماعي وسياسي بأفق واضح، فيما تتماهى القوى المعادية للثورة مع خطاب الجماهير وهويتها، فيما تقف قوى التغير في موقف العاجز (من دون الحديث عن البلاهة السياسية لطيف كبير من اليسار)، إذن، بقيت المشكلة: كيف يمكن تحويل العصيان إلى فعل منظم ودمج الإحتجاج ضمن السياسة؟
لنقل بوضوح، الخوف من هذه القوة العنيفة، في جانب كبير منه، مبرّر لأنّها مارد بلا عقال، فإن لم تتوقف القوى المواطنية عن مسايرة الفعل الإحتجاجي اعتباطياً من دون محاولة عقلنته وتوجيهه لصالح مطالب الشعب وأهداف الثورة ستكون الثورة وأهدافها التي أصبحت ضرباً من اللاوقعية أمام تشكل جديد لنظام ما قبل 14 يناير أولى ضحاياها.
A80A474B-A477-4832-8437-9DA6F0E26A9C
A80A474B-A477-4832-8437-9DA6F0E26A9C
محمد محسن عامر (تونس)
محمد محسن عامر (تونس)