10 ابريل 2019
السيسي وطواحين الرأي
تجاوز الاهتمام بمشكلة الفقر في مصر مألوف العرض التلفزيوني والسينمائي والصحافي، وقفز إلى الكتب المتخصّصة، بعد أن أصبح أكثر تحديداً للمشكلة ونتائجها وحلولها. جاء الإلهام المحرّك للقفزة الأخيرة من تصريح الرئيس عبد الفتاح السيسي في مطلع يناير/ كانون الثاني 2017، والذي قال فيه: "أيوه إحنا بلد فقير، وفقير أوي كمان". ويمكن القول إنّ الثقة في هذا التصريح هي التي جعلت أستاذ الاقتصاد في جامعة القاهرة، عبد الخالق فاروق، يقفز في الظلام بردّه الذي جاء في كتاب حمل سؤالاً استنكارياً بعنوان "هل مصر بلد فقير حقّاً؟ وفيما يبدو أن ثقته لم تكن في محلها، إذ قبضت قوات الأمن المصرية عليه وصادرت كتابه، فيما اعتبرته تهديداً لهيبة الدولة.
حفّزني، مثل غيري، عنوان الكتاب للبحث والاطلاع عليه، وما دعا نظام السيسي إلى مصادرته وسجن كاتبه وناشره. وقبل الخوض في موضوعه، لا بد من لفت النظر إلى أنّ مصر الرائدة في إنتاج الكتب وطباعتها حيث ييمِّم شطرها المؤلفون من مختلف الدول لطباعة كتبهم؛ هي رائدة أيضاً في تدمير الكتب، سواء أكان ذلك حرقاً في عهود قديمة أو مصادرةً في تاريخها السياسي العسكري الحديث، فقد جاء، في التاريخ الفرعوني، أنّ إخناتون بنى مدينته الفاضلة في تل العمارنة، وأقام فيها مكتبة كبيرة، حوت كل صنفٍ من فنون العلم والمعرفة. وبعد وفاته، حرقها كهنة آمون بالكامل، وهكذا إلى أن صار حرق المكتبات سنّة الغازين والمستعمرين. وفي عهد الملك نختنبو الثاني، ثالث وآخر ملوك الأسرة المصرية الثلاثين، والذي حكم في الفترة 360 - 343 ق. م، تمكّن الفرس من إعادة غزو مصر وتدمير مكتباتها المنتشرة. ثم جاءت حادثة تدمير مكتبة الإسكندرية عام 48 م في عهد يوليوس قيصر، ففي أثناء حرقه مائة سفينة على شاطئ الإسكندرية، بعد حصار بطليموس الصغير له، امتدت النيران إلى المكتبة ودمرتها بما احتوته من كتب، فيما قيل إنّ حرقها كان مقصوداً. أما ما بقي من المكتبة فقد تم حرقه في أثناء ثورة الكهنة على الحكم البطلمي، فبعد انتهاء حكمهم تم تدمير آثارهم على يد الرومان، ومن ضمن تلك الآثار ما بقي من مكتبة الإسكندرية. كما شهدت المكتبة حادثاً آخر في عام 640 م عند فتح مصر.
وإن كانت أسباب مصادرة الكتب عديدة، فإنّه تبرز من بينها بشكلٍ خاص الأسباب السياسية التي تفنّنت الأنظمة الحاكمة في اتخاذها ذريعةً لإرهاب المناوئين. وكانت مصادرة الكتب قديماً تتم بإتلافها حرقاً أو دفناً أو إغراقاً. وكان من الأسباب السياسية ما ينطوي على خشية الحكام من أن تحتوي بعض المؤلفات على فضائل آخرين، تطغى على فضائلهم. ومن أمثلة ذلك ما جاء في التراث العربي أنّ كتاب "فضائل الأنصار وأهل المدينة" الذي كتبه أبان بن عثمان بن عفان، عندما وصل إلى عبد الملك بن مروان سنة 82 هجرية، قام بحرقه، خشية أن يقع بيد أهل الشام فيعرفوا لأهل المدينة فضلهم، وهو خلاف ما قام به إعلام السلطة الأموية التي تنسب الفضل لبني أمية في الشام دون غيرهم.
ما جاء في كتاب عبد الخالق فاروق من حقائق مدعمة بالأرقام حرّك رهبة النظام، فاستجمع قوته وعتاده الأمني لمواجهة 190 صفحة ورقية، ففي افتتاحيته وملحق بعنوانه، أوضح الكاتب أنّ الكتاب جاء ردّاً على الجنرال عبد الفتاح السيسي، ما اعتبره النظام تحديّاً صريحاً وجرأة غير مقبولة.
من أهم الموضوعات التي تطرّق لها الكتاب "نماذج من شركات رأسمالية المحاسيب"، والتي استند فيها إلى دراسة قام بها ثلاثة باحثين غربيين عام 2013، عن أثر الاقتصاد المرتبط بأفراد من الحكم والإدارة في عهد حسني مبارك وأعضاء من الحزب الحاكم وأبنائه. توصّلت الدراسة إلى نتائج، أهمها أنّ هناك حوالي 469 شركة يتحكّم فيها 32 من كبار رجال الأعمال في مصر بصورة مباشرة أو غير مباشرة على صلةٍ بجمال مبارك وبالحزب الحاكم (الوطني الديمقراطي).
كما ناقش الكتاب ما كشفته تحقيقات النائب العام في أكتوبر/ تشرين الأول 2017، من حجم التلاعب واختلاس ما يعادل مليون دولار من إحدى شركات البترول المصرية، ووجود شبكات تسيّطر على قطاع البترول والغاز المصري منذ أربعة عقود. ومع أنّ المعلومات عن هذه التحقيقات مبذولة للرأي العام، إلّا أنّ الأمن أخذ الكاتب بجريرة استرساله في هذا الموضوع، إذ انتقد استسهال تصدير البترول والغاز الطبيعي المصري والخسائر من تعاقدات الغاز مع إسرائيل والأردن وشركات غربية أخرى، وما شابها من فساد.
ثم عرّج الكاتب على اقتصاد السجون وتكلفتها الكبيرة، مستنكراً كثرتها والحاجة إليها، لافتاً نظر القرّاء إلى أنّ الفترة التى أعقبت ثورة 25 يناير/ كانون الثاني 2011 شهدت توسعاً فى بناء وإقامة السجون الكبيرة التى بلغ عددها حتى أغسطس/ آب عام 2016 حوالى 19 سجناً جديداً. ثم تطرّق إلى زيادة عدد السجناء، خصوصا السياسيين، بانتهاج النظام منذ مجيئه أساليب الحلول الأمنية في قضايا التعبير عن الرأي، ليثبت الكاتب في هذا السرد أنّ مصر التي
تتكفّل بكلّ هذه السجون الضخمة ليست فقيرة، كما يدعي الجنرال. وتمكن قراءة ذلك مع تقرير حقوقي صدر في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، حيث سلّط الضوء على عدد السجون في مصر الذي بلغ 54 سجناً، بالإضافة إلى 320 مقر احتجاز داخل أقسام ومراكز الشرطة، وأماكن الاحتجاز السرية. وقدّر التقرير عدد المسجونين السياسيين في مصر بحوالي 60 ألف سجين.
وفي قسم "ثروات حسني مبارك المخفية"، ذكر الكاتب أنّ مبارك، منذ كان نائباً للرئيس أنور السادات، يميل بطبعه إلى البحث عن مصادر الثروة والجاه، وازدادت طموحاته بعد أن قرّرت الولايات المتحدة دعم نظام السادات اقتصادياً وعسكرياً بعد توقيعه اتفاقيتي كامب ديفيد في سبتمبر/ أيلول عام 1978، ثم اتفاقية السلام مع إسرائيل في مارس / آذار عام 1979، وبداية فرض حظر ومقاطعة عربية لنظام السادات. ثم توسع نشاط مبارك إلى أن تولّى تشكيلاً خارج القانون لنقل وتجارة السلاح إلى مصر ومناطق النزاعات المسلحة برعاية أطراف إقليمية ودولية.
كتاب الإجابة عن سؤال الفقر بما فيه من معلومات يحمّل نظام السيسي المسؤولية عن رعاية الفساد، ممثّلاً في مبارك ونجليه ومحسوبيه، فيما يؤكّد سجن الكاتب عدم استعداد النظام لفتح هذه الملفات التي قد تدين جهاتٍ أخرى، وتسلّط الضوء على صفقاتٍ مشابهةٍ قام بها السيسي. ولربما من الضروري الإشارة إلى أنّ خطورة هذه المعلومات في أنها لا تقتصر على الارتباط بعهد الرئيس المخلوع، حسني مبارك، وحده، بل تشير بأكثر من معنى إلى أنّ ذلك الوضع الذي كان أحد عوامل اندلاع ثورة 25 يناير في العام 2011 ما زال قائماً، ما يستوجب قيام ثورة أخرى لإنهائه.
حفّزني، مثل غيري، عنوان الكتاب للبحث والاطلاع عليه، وما دعا نظام السيسي إلى مصادرته وسجن كاتبه وناشره. وقبل الخوض في موضوعه، لا بد من لفت النظر إلى أنّ مصر الرائدة في إنتاج الكتب وطباعتها حيث ييمِّم شطرها المؤلفون من مختلف الدول لطباعة كتبهم؛ هي رائدة أيضاً في تدمير الكتب، سواء أكان ذلك حرقاً في عهود قديمة أو مصادرةً في تاريخها السياسي العسكري الحديث، فقد جاء، في التاريخ الفرعوني، أنّ إخناتون بنى مدينته الفاضلة في تل العمارنة، وأقام فيها مكتبة كبيرة، حوت كل صنفٍ من فنون العلم والمعرفة. وبعد وفاته، حرقها كهنة آمون بالكامل، وهكذا إلى أن صار حرق المكتبات سنّة الغازين والمستعمرين. وفي عهد الملك نختنبو الثاني، ثالث وآخر ملوك الأسرة المصرية الثلاثين، والذي حكم في الفترة 360 - 343 ق. م، تمكّن الفرس من إعادة غزو مصر وتدمير مكتباتها المنتشرة. ثم جاءت حادثة تدمير مكتبة الإسكندرية عام 48 م في عهد يوليوس قيصر، ففي أثناء حرقه مائة سفينة على شاطئ الإسكندرية، بعد حصار بطليموس الصغير له، امتدت النيران إلى المكتبة ودمرتها بما احتوته من كتب، فيما قيل إنّ حرقها كان مقصوداً. أما ما بقي من المكتبة فقد تم حرقه في أثناء ثورة الكهنة على الحكم البطلمي، فبعد انتهاء حكمهم تم تدمير آثارهم على يد الرومان، ومن ضمن تلك الآثار ما بقي من مكتبة الإسكندرية. كما شهدت المكتبة حادثاً آخر في عام 640 م عند فتح مصر.
وإن كانت أسباب مصادرة الكتب عديدة، فإنّه تبرز من بينها بشكلٍ خاص الأسباب السياسية التي تفنّنت الأنظمة الحاكمة في اتخاذها ذريعةً لإرهاب المناوئين. وكانت مصادرة الكتب قديماً تتم بإتلافها حرقاً أو دفناً أو إغراقاً. وكان من الأسباب السياسية ما ينطوي على خشية الحكام من أن تحتوي بعض المؤلفات على فضائل آخرين، تطغى على فضائلهم. ومن أمثلة ذلك ما جاء في التراث العربي أنّ كتاب "فضائل الأنصار وأهل المدينة" الذي كتبه أبان بن عثمان بن عفان، عندما وصل إلى عبد الملك بن مروان سنة 82 هجرية، قام بحرقه، خشية أن يقع بيد أهل الشام فيعرفوا لأهل المدينة فضلهم، وهو خلاف ما قام به إعلام السلطة الأموية التي تنسب الفضل لبني أمية في الشام دون غيرهم.
ما جاء في كتاب عبد الخالق فاروق من حقائق مدعمة بالأرقام حرّك رهبة النظام، فاستجمع قوته وعتاده الأمني لمواجهة 190 صفحة ورقية، ففي افتتاحيته وملحق بعنوانه، أوضح الكاتب أنّ الكتاب جاء ردّاً على الجنرال عبد الفتاح السيسي، ما اعتبره النظام تحديّاً صريحاً وجرأة غير مقبولة.
من أهم الموضوعات التي تطرّق لها الكتاب "نماذج من شركات رأسمالية المحاسيب"، والتي استند فيها إلى دراسة قام بها ثلاثة باحثين غربيين عام 2013، عن أثر الاقتصاد المرتبط بأفراد من الحكم والإدارة في عهد حسني مبارك وأعضاء من الحزب الحاكم وأبنائه. توصّلت الدراسة إلى نتائج، أهمها أنّ هناك حوالي 469 شركة يتحكّم فيها 32 من كبار رجال الأعمال في مصر بصورة مباشرة أو غير مباشرة على صلةٍ بجمال مبارك وبالحزب الحاكم (الوطني الديمقراطي).
كما ناقش الكتاب ما كشفته تحقيقات النائب العام في أكتوبر/ تشرين الأول 2017، من حجم التلاعب واختلاس ما يعادل مليون دولار من إحدى شركات البترول المصرية، ووجود شبكات تسيّطر على قطاع البترول والغاز المصري منذ أربعة عقود. ومع أنّ المعلومات عن هذه التحقيقات مبذولة للرأي العام، إلّا أنّ الأمن أخذ الكاتب بجريرة استرساله في هذا الموضوع، إذ انتقد استسهال تصدير البترول والغاز الطبيعي المصري والخسائر من تعاقدات الغاز مع إسرائيل والأردن وشركات غربية أخرى، وما شابها من فساد.
ثم عرّج الكاتب على اقتصاد السجون وتكلفتها الكبيرة، مستنكراً كثرتها والحاجة إليها، لافتاً نظر القرّاء إلى أنّ الفترة التى أعقبت ثورة 25 يناير/ كانون الثاني 2011 شهدت توسعاً فى بناء وإقامة السجون الكبيرة التى بلغ عددها حتى أغسطس/ آب عام 2016 حوالى 19 سجناً جديداً. ثم تطرّق إلى زيادة عدد السجناء، خصوصا السياسيين، بانتهاج النظام منذ مجيئه أساليب الحلول الأمنية في قضايا التعبير عن الرأي، ليثبت الكاتب في هذا السرد أنّ مصر التي
وفي قسم "ثروات حسني مبارك المخفية"، ذكر الكاتب أنّ مبارك، منذ كان نائباً للرئيس أنور السادات، يميل بطبعه إلى البحث عن مصادر الثروة والجاه، وازدادت طموحاته بعد أن قرّرت الولايات المتحدة دعم نظام السادات اقتصادياً وعسكرياً بعد توقيعه اتفاقيتي كامب ديفيد في سبتمبر/ أيلول عام 1978، ثم اتفاقية السلام مع إسرائيل في مارس / آذار عام 1979، وبداية فرض حظر ومقاطعة عربية لنظام السادات. ثم توسع نشاط مبارك إلى أن تولّى تشكيلاً خارج القانون لنقل وتجارة السلاح إلى مصر ومناطق النزاعات المسلحة برعاية أطراف إقليمية ودولية.
كتاب الإجابة عن سؤال الفقر بما فيه من معلومات يحمّل نظام السيسي المسؤولية عن رعاية الفساد، ممثّلاً في مبارك ونجليه ومحسوبيه، فيما يؤكّد سجن الكاتب عدم استعداد النظام لفتح هذه الملفات التي قد تدين جهاتٍ أخرى، وتسلّط الضوء على صفقاتٍ مشابهةٍ قام بها السيسي. ولربما من الضروري الإشارة إلى أنّ خطورة هذه المعلومات في أنها لا تقتصر على الارتباط بعهد الرئيس المخلوع، حسني مبارك، وحده، بل تشير بأكثر من معنى إلى أنّ ذلك الوضع الذي كان أحد عوامل اندلاع ثورة 25 يناير في العام 2011 ما زال قائماً، ما يستوجب قيام ثورة أخرى لإنهائه.