السيسي وجنائز الديمقراطية .. حدوتة مصرية

15 يونيو 2014
+ الخط -

جرت الانتخابات الرئاسية في مصر، أخيراً، ضمن سيناريو فاقد، من فرط تكرره في دول عربية كثيرة، الطرافة والإثارة: انقلاب ناعم على سلطةٍ لها بعض من الشرعية، تتراوح مقادير كثافتها من حالة إلى أخرى. يعمد المنقلب إلى استقطاع وقت ما، يهيئ فيه سيناريوهات الإخراج المسرحقوقراطي، على حد تعبير الأنثروبولوجي الفرنسي، برتران بادي، في دراساته عن السلطة في إفريقيا. يقتضي الإخراج استثمار تقنيات الإثارة ومفردات الحداثة السياسية معاً، منها الانتخابات والمحاكم الدستورية وأثاث واكسسوارات محلية، في ما يشبه الكرنفالات، حتى تصبح الديموقراطية المزعومة إنتاجا وطنياً خالصاً، يعبر عن روح الأمة المصرية في هذه الحالة. وكان لا بد طبعاً من حملات المناشدة التي تصل إلى حد الاستعطاف لرجل زاهد في السلطة، وجحافل المناشدين الذين تلهج حناجرهم باسمه، لنمر، لاحقاً، بلقاء الزعيم القوى الحية في الأمة، منها على وجه الخصوص، المثقفون وقيادات الرأي العام، وبالذات الفنانون. بعض المجاملات وروح المداعبة كافية لتبديد صورة العسكري المنقبض. التذكير بالسيادة الوطنية ومواجهة التهديدات ورد يومي للتلاوة، عدا نوافل الورع والتقوى. تلك طقوس وشعائر الاستيلاء على السلطة، وفق مسلسل متعدد الحلقات، خبرها الوطن العربي منذ أزمنة.
أما التسويق الخارجي، فلا يحتاج إلى عناء كبير. يكفي أن نستحضر حرصنا على دعم المجهود الدولي في مكافحة الإرهاب، والالتزام بالسلام مع إسرائيل، ونسارع إلى القيام بمبادراتٍ في هذا الاتجاه، تعبيراً عن حسن النيات. ومن عجائب المصادفات أن غباء المجموعات الإرهابية يبلغ ذروته دوماً، في مثل هذه الحالات، ويتزامن، مع ذلك، الساق بالساق. السيناريو نفسه، من موريتانيا إلى تونس، وغيرها من دول عديدة، يعاد بحذافيره تقريباً في أرض الكنانة. 


أيام لحفلات الرقص والزغاريد الشعبية الخالصة لأبناء الأحياء الفقيرة، حتى تبدأ شعائر المسخ الكبير. وقت مخاض فيما بين الفصول، يخصص لتغيير الهندام من البزة العسكرية إلى البزة المدنية. لا يستحق الأمر سوى قليلٍ من الوقت لتبدو العقلية المدنية واضحة: يغير الرجل من مشيته قليلاً، يبدو جسمه أكثر ليونة ورخاوة، كما المدنيين تماماً. جسم استوى في الثكنات، يروم أن يستحيل على هيئة مدنيةٍ نشأت من اكسسوارات الحياة المدنية، يقتضيها المقام. يلتفت المشير، ويبدي من القسمات والملامح المدنية ما تطمئن إليها القلوب. التفاصيل الأخرى مسألة وقت. هناك أمثلة للنجاح تقدم له في طبق شهي: شارل ديغول، روزفلت، حسني مبارك، أنور السادات. وبما أن الرجل مصري خالص، سيختار، بعد تردد كبير، نسخة فائقة الوطنية للاقتداء: الزعيم جمال عبد الناصر، ولكن، في نسخة محينة طبعة 2014. أما النهايات، فلا تعنيه حالياً، سيقول بكثير من التقوى على مذهب الإمام أبي حنيفة "دعها حتى تقع".
لا يعنينا، هنا، بيان الطعون القاتلة في مشروعية ما حدث وشرعيته، فلا أعتقد أن خطاباً عالماً، منسجما مع منطلقات الديموقراطية وشروطها، يجرؤ على الدفاع عن شرعية ما حدث، مهما أقررنا بأخطاء ما وقع مع حكم "الإخوان المسلمين" في مصر، فلا شيء كان يبرر ما حدث، خصوصاً وأن خيارات أخرى، تم إجهاضها عمداً لترك العسكر بديلاً أوحد. تتتالى الاعترافات، حالياً، أن ذلك كان إجراءً استباقياً، التقت حوله عدة قوى، كان من مصلحتها العاجلة وأد التجربة في المهد، لأنه، حتى بأخطائها، كان يمكن أن تفضي إلى حالة متقدمة، يستعيد فيها الشعب المصري، وقواه الثورية، زمام المبادرة. وقد تكون تلك الخطوة على حساب "الإخوان"، مثلما يقع في أحيانٍ عديدة في تجارب الانتقال الديموقراطي، فهناك لحظات من المد الثوري، وأخرى من الجزر الثوري، وهناك حالات أخرى من الانقلاب السافر على الثورة. خيار العسكر وما يعنيه عامة، وتراثه، في الحالة المصرية بالذات، لا يمكن إلا أن يكون انقلاباً على الثورة.
الدولة المدنية التي يتباكى عليها الحداثيون واللائكيون، لا يمكن أن يبنيها العسكر، كان ذلك حلماً منكسراً لمحمد علي، منذ قرون، حتى لو تخلص العسكر من بدلاتهم العسكرية، فالديموقراطية تستوجب مشروعاً سياسياً تلتف حوله النخب، وتلتقي حول شروطه الطبقة السياسية، ما لم نلحظه في الحالة المصرية، فالذين اختاروا العسكر، وروجوا فزاعات "الأخونة" لم يستندوا إلى أطروحات فكرية، أو متون نظرية، إنما استندوا إلى ترجيح سياسيٍ محض، يقوم على المصلحة السياسية الخالصة، وتوهموا ربحاً وفيراً بمجرد إزاحة خصم سياسي، لم تخرجه صناديق الاقتراع، وإنما أخرجه الرصاص. نعلم تماماً أن المعركة حسمت حاليا لفائدة العسكر، ولكن، نحن على يقين بأن استعادة الثورة روحها وانتصار أطروحة الشرعية أمر معقد، لا تحدده إرادة المصريين فحسب، ولا قدرة "الإخوان" وحلفائهم الذين عاد إلى بعضهم شيء من الرشد، بقدر ما ستحدده قدرة المصريين على كسر طوق الضغط الخارجي عليهم، في ظل إغراءات التمويل الذي يتوهم سلب الناس ملكة الفرز لديهم.
لن نستغرب ردود الأفعال المختلفة، مصرية أو دولية، حتى الهزلية منها، وإنما ما أثار انتباهنا هو ما أبداه لفيف كبير من رموز الحداثة السياسية في تونس، وغيرها من الدول العربية، من تأييد ما حدث ومباركته، ما جعلهم نسخة يسارية من حزب النور السلفي. يزول اندهاشنا إذا استخضرنا أن السلفيين أولياء بعضهم لبعض، أياً كانت الأيديولوجيا. والسيسي جعل أقصى اليسار العربي، وبعض القوميين، يتنافسون مع حزب النور السلفي، في تقديم طقوس الولاء والطاعة للنظام الذي أفرزته" الانتخابات الأخيرة". هل هي علامة من علامات الساعة، أم نهاية التاريخ. لا هي الأولى، ولا الثانية، إنما تلك علامة فارقة على ما وصل إليه التفكير السياسي لبعض نخبنا من انتهازية، وعمى أيديولوجي، حينما يعجز عن إيجاد حالة شعبية، يقارع الخصم فيها بأدوات حداثية. سيفتي الحداثيون مثلما يفتي السلفيون من رموز حزب النور: القدر اختار السيسي، لتجنب "الإخوان" الضالين المضللين. قدر لدى بعضهم وحتمية تاريخية يقتضيها التكتيك الثوري لدى آخرين.
 ميدان رابعة العدوية من فضاءات للدم والأشلاء. لا يعني، هنا، تفاصيل قتلهم، ولكن، على مقربة منهم يتزاحم خلق كثير على تهنئة السيسي. عزاؤنا الوحيد سيظل في تاريخ يعلمنا، إذا بقيت لدينا رغبة في التعلم طبعاً، أن الفكرة لا تموت.

 

7962F3C9-47B8-46B1-8426-3C863C4118CC
المهدي مبروك

وزير الثقافة التونسي عامي 2012 و2013. مواليد 1963. أستاذ جامعي، ألف كتباً، ونشر مقالات بالعربية والفرنسية. ناشط سياسي ونقابي وحقوقي. كان عضواً في الهيئة العليا لتحقيق أَهداف الثورة والعدالة الانتقالية والانتقال الديموقراطي.