السيسي واستحضار الأرواح المعادية

17 ابريل 2016
+ الخط -
بدأبٍ يلجأ رئيس النظام المصري، عبد الفتاح السيسي، بين الفينة والأخرى، إلى الكلام عن مؤامرة تتعرّض لها مصر، أو عن حروبٍ خفية يشنها أعداؤها عليها. بينما في الواقع لا ترى جيوشاً تحتشد على حدود بلاده، ولا غارات تدك مدنها، ولا حتى دخاناً للمعارك. وهو كلام يأتي في غمرة صفوة العلاقات المصرية مع أقرب الأعداء التاريخيين، الكيان الصهيوني، وفي ظل حالة الوئام الدائم مع الولايات المتحدة، والتناغم مع سياساتها في المنطقة. وكون ذلك قد تكرّر، غير مرة، في خطاباته، ويصدح إعلامه، صبح مساء، خوضاً فيه، فلا نستنتج سوى أن تلك قد أصبحت سياسةً تبناها نظامه وكرَّسها، كما تفعل عادة الأنظمة القمعية المشابهة، وحدّد لها أجندة إعلامية، وبنى لها استراتيجيةً يعمل يومياً على تنفيذها، بهدف زيادة التفاف أبناء الشعب حوله، وكي يغضّوا نظرهم عن واقعهم المعيشي اليومي، ويبرّروا قمعه الواقع على المصريين، علاوة على التملص من حل المشكلات المزمنة التي ترزح البلاد تحت ثقلها.
تعتبر عودة السيسي إلى ارتداء البذلة العسكرية في أثناء افتتاح تفريعة قناة السويس الجديدة في 6 أغسطس/آب الماضي، وفي غيرها من المناسبات، دليلاً على أن الرجل يريد التأكيد على حالة الحرب المزعومة، وعلى أنه هو الذي يواجهها، ويحق له أن يستخدم في هذه المواجهة كل الأساليب والأسلحة. وقد ارتدى هذه البذلة، على الرغم من أنه لم يعد عسكرياً، إثرَ استقالته من وزارة الدفاع والقوات المسلحة، حين أعلن أواخر مارس/آذار 2014 عزمه على الترشّح لانتخابات الرئاسة المصرية. وقال يومها، في البيان الذي أذاعه التلفزيون المصري، إنه سيقف، للمرة الأخيرة، أمام الناس بزيه العسكري، بعد أن قرّر إنهاء خدمته وزيراً للدفاع. كما أن عودته إلى ارتداء هذه البذلة توجه رسائل للمعارضين أن النظام يمكنه أن يتحوّل بين ليلة وضحاها، وفي ظل المعركة التي يخوضها، إلى نظام عسكري، له الحق بالانقضاض على ما تبقى من حقوق المصريين المدنية، فهو يلبس البذلة العسكرية، بينما هم ليسوا كذلك، ويحق له ما لا يحق لهم.
وكان تصريح السيسي الأخطر عن المؤامرة قد جاء في أعقاب الهجوم الذي أودى بحياة عدد
من الجنود في العريش في 24 أكتوبر/تشرين الأول 2014. قال يومها إن دولاً تقف وراء الإرهاب في بلاده، وإن هنالك مخططاً يستهدفها، ويريد إعاقتها ومنعها من التقدم في جميع المجالات. وتأتي خطورته من أنه شرَّع لاتخاذه الإرهاب ذريعةً لمحاربة معارضيه. وكان لافتاً أن لغة المؤامرة خرجت من عقالها على صفحات الجرائد المصرية، وفي الإعلام، في أعقاب سقوط طائرة الركاب الروسية في سيناء في 31 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، فقدت شرعوا جميعا بالحديث عن "إرهاب الغرب"، وأن "شرم الشيخ تتحدى مخابرات العالم"، وأن الشعب يتحدّى المؤامرة، وطبعاً لا بأس من العتب على الأصدقاء.
وفي هذا السياق، تغالي الصحف المصرية، والإعلام عموماً، منذ فترة، بوصف الوضع في مصر بأنه يشبه ما كان عليه الأمر خلال العدوان الثلاثي سنة 1956، وخصوصاً بعد حادثة سقوط طائرة الركاب الروسية. وحين يجري البحث، لا ترى معتدين، ولا اعتداء، فهل تتكلم هذه الصحف عن أشباح أم أرواح، أم أن محرّريها يعيشون في بيئةٍ أوحيت لهم، وأوعز لهم أحدهم بعيشها. وطبعاً لا يخفى أن الهدف من إيجاد هذه البيئة هو الإيحاء للشعب المصري بأن هنالك متربصين باستقرار البلد وبالسلم الأهلي، وما إلى هنالك من تعابير تستخدم في هذه الحالة، لتصوير ممارسات القوى الأمنية بأنها دفاع عن مصالح البلاد، وعن أمن مواطنيها. وبالتالي، يسهل إعطاء الانطباع عن المستهدفين أنهم أعداء للبلاد، يستحقون أقل الحقوق، ويجرّدون من إنسانيتهم، فيعتبر استهدافهم شرعياً، لا يستوجب المسؤولية. أي، بكلام آخر، تشريع للقتل العشوائي ولحالات الاستهداف اليومي للمعارضين، وقتلهم في الطرقات والساحات، علاوة على حالات قتل المعتقلين، وهم في السجون. وهي سياسةٌ رأينا أنصع شكلٍ لتبديها في إعلان وزارة الداخلية المصرية في 24 من مارس/آذار الماضي عن قتل خمسة أشخاص في الشارع، على اعتبار أنهم قتلة الطالب الإيطالي جوليو ريجيني. وبالتأكيد، هي رواية باهتة، لم تصدقها الحكومة الإيطالية. لكن، غابت في حيثياتها حقيقة الأشخاص المقتولين، ومن هم، وكيف تأكّدت السلطات من هوياتهم فقتلتهم على الفور، وهم في حافلة نقل ركاب.
وعلى الرغم من أنه يطرب في الكلام عن المؤامرة والإرهاب وزعزعة استقرار البلاد، يقع عبد الفتاح السيسي في تناقضٍ مع نفسه، حين يعلن أحياناً عن انتصارات، ربما لكي لا يظهر بمظهر العاجز. ففي خطابه أمام العسكريين في سيناء، في 4 يوليو/تموز الماضي، والذي ظهر فيه بزيه العسكري، طمأن المصريين قائلاً إن: "الأمور.. كلمة تحت السيطرة مش كفاية"، بل: "الأمور مستقرة تماماً". وعاد فأعلن أمام مجلس النواب في 13 فبراير/شباط الماضي، عن انتصارٍ تحقّق على التنظيمات الإرهابية، حين قال: "استطعنا أن نكسر شوكة تنظيمات الإرهاب في الوادي وسيناء، وعلى حدودنا الغربية، ولا زلنا نواصل هذه المعركة بلا تراخٍ أو ملل"، غير أنه لم يورد كيف انكسرت تلك الشوكة، ولم يدعم قوله بأية وقائع تؤكد هذا الانتصار. كما أنه يعود فيتكلم عن المؤامرة، من دون أن يحدّدها، حين يقول، في الخطاب نفسه: "علينا ألا ننسى أننا نجحنا في تعطيل مخطط وإبطال مؤامرة، وعلينا أن ندرك أن هناك من هو متربص"، فكيف له أن يحدّدها، وإن فعل ذلك عليه أن يقدم المتآمرين إلى القضاء، لكي ينالوا جزاءهم. وبالتالي، قد يُطلب منه الالتفات إلى ملفاتٍ أخرى لمعالجتها، وهو ما لن يفعله، أو ما لا يمتلك أية استراتيجية للتعامل معه. كما أنه، وفي هذا الخطاب، تحدّث عن إرهابٍ وليس عن الإرهاب، وعن مؤامرةٍ وليس عن المؤامرة، وعن متربصين أيضاً، ولم يحدّد أياً منهم. فهل يقصد أن كل مصري هو مشروع متربص، إن خالف حكمه، وستقع عليه أحكام قانون الإرهاب، ويصنف متآمراً؟ عمليات قتل المعارضين في الشوارع تؤكد هذا الافتراض.
46A94F74-0E6B-4FEC-BFDA-803FB7C9ADA6
مالك ونوس

كاتب ومترجم سوري، نشر ترجمات ومقالات في صحف ودوريات سورية ولبنانية وخليجية، نقل إلى العربية كتاب "غزة حافظوا على إنسانيتكم" للمتضامن الدولي فيتوريو أريغوني، وصدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.