السيادتان.. المفقودة والمزعومة

24 نوفمبر 2017
+ الخط -
سُمعت، في الأسابيع القليلة الماضية، كلمة السيادة من زعماء كثيرين في بلاد العرب. وحينما ينطق هؤلاء بهذه الكلمة السحرية، يصاب واحدنا بنوبات ضحك، لكنه، على ما يرى المتنبي ضحك كالبكاء، فالأحاديث الكثيرة عن السيادة لا تقوم بها الدول المستقرة، ولا الدول الفاعلة المستقرة. ولكن نستمع لهذه الكلمة، وقد ارتدت قناع الهيبة الكاذب. والحقيقة أن السيادة مفقودة. وهم يتحدّثون عن سيادة مزعومة، مصحوبة بفائض من الكلام، وحديث عن سيادة الدولة، ودول مستباحة لا تعبر حقيقة عن أي سيادة حقيقية، بل إن بعض هؤلاء يتنازلون عن سيادات دولهم بخاطرهم وباختيارهم، وهم يتحدثون عن أن ذلك لخدمة الوطن، وإنفاذا لمصالحه وإعمالا لسيادته، ويمتلئ فائض الكلام بالتناقض، بل برسوخ العكس.
يتحدث بشار الأسد عن سيادة سورية ووحدتها، وقد مزقها إربا، وقتل شعبها بدم بارد، وهجّر بعضا من بقية الشعب تهجيرا قسريا بلا جريمةٍ ارتكبها سوى أنه طالب ببعض حقوقه. ولكن في سبيل الحفاظ على كرسي المستبد، سترى ذلك الخطاب الزائف والحديث عن السيادة الكاذبة، هل تعلم أن في سورية من القوات الأميركية والقوات الإيرانية والقوات البريطانية وحزب الله والقوات الكردية من غير أكراد سورية والقوات التركية والقوات الروسية، وبعد ذلك يخرج السفاح، ليتحدث عن السيادة. أي سيادة تلك يمكن أن يتحدث عنها؟ ويتبجح بالقول فيها. هو من دعا بعض تلك القوات لمساعدته ودعمه. هكذا في كلمة سحرية أخرى، لا تقل زيفا عن كلمة السيادة، وهي محاربة الإرهاب. ولا يعلم هؤلاء كلهم أن الاستبداد أصل كل داء، هو الإرهاب الحقيقي، وهو الذي يفرّخ الإرهاب. المقصود بالاستبداد هو الذي في الداخل من حاكم غاصب طاغ، والاستبداد من الخارج في إطار من الفرعنة السياسية لدول في مجلس الأمن، صارت تدير العالم وفق خريطةٍ للتنافس والصراع والتوازن حول مناطق نفوذ.
هل يمكن بعد ذلك كله أن يتحدث هذا "البشار" عن سيادة في دولته، بعد أن تحولت أرض 
سورية إلى أرضٍ مستباحة، أتى إليها كل طامح وطامع، وشعب مهضوم وشعب منفي وشعب مقتول وبقية من شعبٍ في حالة خوف مذعور. هل يمكن أن نتحدث بعد ذلك عن سيادة دولة، فلتنظر إلى استدعاء على وجه السرعة لبشار الجزار إلى بوتين الماكر الجبار، ولتشهد كيف قابله، وكيف كان نكرة لا يؤبه له، لكنها عبودية لدول وقوى ساعدته، صارت لها من المصالح والوجود تتمدد وتتغول على أصل سلطانه وسيادة بلده، وتتوزع مناطق النفوذ بين تلك القوى المختلفة. وضمن هذه الحماية الطاغية والسلطة الزائفة، يبيد الضعفاء ببراميله المتفجرة وبغاراته المتوحشة. وتبدو الأمور كلها ضمن تلك المقولة التي تحضر في مثل هذا المشهد "أسد عليّ وفي الحروب نعامة"، سيادة مستباحة وشعب يباد ثم تحدث الاتفاقات وفق حدود التوازن والمصالح، حتى لو كانت على حساب دماء الشعوب، لا يأبه كل هؤلاء بشعبٍ ولا مطالب وطن. الأمر ببساطة، والكلمة الأولى، أن سورية صارت معمل تجارب، وشعبها في الميدان. وبعد ذلك يتحدث كل هؤلاء عن السيادة، المستبد يدّعي شرعية حكمه. ويدّعي القادمون من الخارج أنهم أتوا بطلب منه، والأكلة الفجرة يتداعون على القصعة. وفي هذا المناخ كله ترتفع نبرة السيادة المزعومة.
وهذا مشهد آخر للمنقلب في مصر، عبد الفتاح السيسي، يتحدث أنه حامي الحمى وحامي الوطن و"الدكر الذي انتظرته مصر طويلا". يذهب هذا الرجل إلى قبرص، لتأمين اتفاق يتعلق بترسيم الحدود شكلا، وبتنازلات كبيرة واقعا، وإن أردت أن تكمل الصورة، عليك أن ترجع في الخلفية إلى التنازل عن جزيرتين استراتيجيتين، هما تيران وصنافير، لمصلحة السعودية ظاهرا، ولمنفعة الكيان الصهيوني باطنا. وعليك أيضا أن تمتد ببصرك إلى اتفاق مبادئ بشأن مياه النيل وسد النهضة في إثيوبيا، أقل ما يقال فيه إنه اتفاق خيانة وتنازل وتفريط. وبعد كل تلك التنازلات، يتحدث ذلك الرجل عن سيادة مزعومة واستقرار كاذب، ولا تنس أنه سيتحدث أيضا عن مكافحة الإرهاب الباب السحري لتثبيت المستبد والاستبداد، موارد ومقدرات يتنازل عنها، والحديث يتواصل عن سيادة مزعومة، وسيادة هي في الأصل مفقودة. إنها قصة السيادة التي صارت من لغو القول على ألسنة مستبدين، لم يجيدوا إلا التفريط واحتراف مشاريع الخيانة والتفريط.
عليك أيضا أن تشهد مشهد لبنان المريب. يعلن رئيس وزراء استقالته من دولة ثانية، ويتحدث عن سيادة منقوصة لسيطرة قوى تدعم من إيران، لكنه يعلن ذلك رغما عنه في بلد آخر، هو السعودية، كان فيه في حكم المختطف. وتتحدث دولة الاختطاف تلك أن السيادة في لبنان 
منقوصة، وأن إيران سبب انتقاص السيادة، فماذا تفعل السعودية، تختطف رئيس وزرائها وتمْلي عليه خطابا يقرّر فيه الاستقالة. والأخطر من ذلك أن تتحدث السعودية عن سيادة، وهي دولة تابعة تدخل من باب المساومة على حكم القادم الجديد، فتدفع الأموال إتاوة للولايات المتحدة الأميركية، ثم تستولي، بعد ذلك، باسم مكافحة الفساد على أموال بعض رجال أعمالها، وتعتقلهم. هذه هي شكل السيادة المزعومة، أسد عليّ وفي نادي الأقوياء نعامة. يتحدث عن سيادته، ويتغوّل على سيادة الآخرين. صارت السيادة ألعوبة أنظمة في الإقليم، وفي الخارج، فتأتي سيادة فرنسا، فتضغط لإخراج المختطف، وترسله إلى لبنان يحمل شروطا. هذه هي "لعبة شطرنج السيادة".
كما أن مملكة البحرين دائمة الحديث عن السيادة، وعن المواجهة الحتمية مع إيران، وتطالب كل العرب بأن يدخلوا تلك المعركة، وإلا... تستقوي تستقوي بغيرها وتتحدث عن السيادة، وتواجه غيرها بفائض كلمات مواجهة، مستندة إلى دول أخرى في الإقليم وفي الخارج، ولكنه يتحدث عن السيادة! ما بال كلمة السيادة قد ابتذلت وانتهكت، دول مستباحة تابعة تتحدث ليل نهار عن السيادة انتهاكا أو اكتسابا، فهل نحن، في حقيقة الأمر، أمام معنى حقيقي للسيادة؟ هكذا في بلاد العرب يصدعون في السيادة في قبالة بعضهم، ويعلو الصوت والصراخ، ثم يلجأ إلى غيره ليواجه سيادةً بسيادة، وهو لا يعلم أن فكرة السيادة تتآكل، ويأكل منها كل قادم، فلا استقلال قرار ولا مواقف ذاتية، وإنما هو حديث يتعلق بتبعيات وإمعات.
لو بقيت أعدد مشاهد السيادة المفقودة والسيادة المزعومة، لطال بنا الكلام، ولكتبنا سفرا كاملا يؤكد ما سماه بعضهم علم النكبات العربية. منذ فترة ليست بعيدة، صرنا في مساحات السيادة نستجير من الرمضاء بالنار، ولم نواجه بعد حال الاستبداد المقيم الذي يشكل مشروع خيانة للوطن وللشعوب، وادعاء بالهيبة، وهم أقرب ما يكون إلى العبيد لأقوياء آخرين. فقط هم يستعبدون شعوبهم، وينكلون بهم استخفافا واستباحة، إنها متوالية الاستبداد، حينما يدعم استبداد الخارج، حفاظا على مصالحه، استبداد الداخل كأداة تتغوّل على الضعفاء من شعبه. وفي النهاية، ينسدل الستار على مشهد السيادة المفقودة، والسيادة المزعومة، أسدٌ عليّ وفي الحروب نعامة.
ECE602C0-DB35-414B-9572-17B675CE3C2A
سيف الدين عبد الفتاح

كاتب وباحث مصري، مواليد 1954، أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة، من مؤلفاته "في النظرية السياسية من منظور إسلامي"، و" التجديد السياسي والواقع العربي المعاصر.. رؤية إسلامية".