خمس محطات أساسية يخوضها السوريون الراغبون في الهجرة إلى أوروبا، تبدأ منذ خروجهم من بلدهم للنجاة بحياتهم مروراً بمصر التي ينتقلون منها إلى ليبيا التي تصبح محطتهم الرئيسية لخوض البحر المتوسط، في قوارب بدائية مكدسة بالأطفال والنساء، انتهاءً بالوصول إلى الشواطئ الإيطالية التي تعد مدخلهم إلى باقي دول أوروبا.
يدرك المهاجرون السوريون ممن يدفعون آلاف الدولارات لمهرّبيهم خطورة القوارب البدائية التي تتوقف بعضها في عرض البحر، فيكون القضاء والقدر أسرع إليهم من خفر السواحل، لكنهم أصبحوا كمن يفضّل الموت غرقاً على الموت ببرميل متفجر.
التحقيق التالي يرصد محطات هجرة السوريين نحو شواطئ القارة العجوز.
المحطة الأولى
فراس، محمد، هاشم، وآخرون، كلهم سوريون أعيتهم ظروف الحرب في بلادهم، فغادروها إلى لبنان، ثم إلى مصر التي اضطربت الأوضاع فيها، فتركوها وراءهم وقصدوا جارتها الغربية ليبيا. دخلوها بطرق غير شرعية عبر الحدود المصرية بعد أن قطعوا جبالاً وطرقاً وعرة بصحبة عصابات تهريب نشطة هناك، حيث تتكفل العصابات بنقل السوريين من مدينة "مرسي مطروح" أقصى شمال غرب مصر إلى داخل الأراضي الليبية، لقاء مبلغ يتراوح بين 300 دولار أميركي و600 دولار أميركي، وهي كلفة الانتقال عبر الصحراء إلى ليبيا.
يروي هاشم بداية الرحلة ووصولهم إلى ليبيا قائلاً لـ"العربي الجديد": "في مدينة البيضاء - 200 كم شرق بنغازي -، التقينا بسوريين آخرين قطعوا نفس الطريق وتقاطعت أهدافنا جميعاً في الهجرة، حيث تواصلنا هاتفياً مع عصابة التهريب التي طلبت من المجموعة الانتقال إلى طرابلس، على أن يتكفل المُهَرّبونَ بباقي الإجراءات مقابل مبلغ يتراوح بين 1000 دولار أميركي و 1500 دولار أميركي لكل شخص".
"تتألف مجموعتنا من أربعين شخصاً، بينهم 13 شاب و 9 نساء بالإضافة إلى 18 طفلاً تتراوح أعمارهم بين الرضع و16 سنة" يقول هاشم موضحاً الصورة أكثر: "قررنا جميعاً الانتقال إلى طرابلس بناءً على طلب المُهَربينْ، فكان لابد أن ننقسم لفريقين بغية تجنب لفت الانتباه في المطارات الليبية، فغادر الفريق الأول مدينة البيضاء نحو مطار "الأبرق" 18 كم شرق البيضاء، وهناك واجهنا مشكلة أخرى، حيث لا نملك أوراق إقامة نظامية في ليبيا، الأمر الذي سيحول دون سماح أمن المطار بالمغادرة".
يتدخل الشاب السوري فراس (24 عاماً) في الحوار ليشرح كيف تجاوزوا مشكلة عدم حملهم لأوراق نظامية قائلاً "تم تجاوز هذه العقبة من خلال ليبيين تعرّفنا عليهم في مدينة البيضاء، وهم من قبيلة فيها أفراد يعملون كعناصر أمن في مطار "الأبرق"، فتغاضوا عن عدم امتلاكنا لأوراق إقامة نظامية في ليبيا، ودبّروا لنا الأمر في المطار حتى صعدنا للطائرة التي أقلتنا للعاصمة الليبية، ثم انتقل الفريق الثاني في اليوم التالي بنفس الطريقة حتى وصلت المجموعة بالكامل على متن طائرتين إلى طرابلس".
المنزل الذي أقام به المهاجرون السوريون في ليبيا (العربي الجديد) |
من طرابلس إلى زوارة
وصلت المجموعة الأولى إلى مطار طرابلس، حيث كان الاتفاق أن يتصلوا بعصابة التهريب بمجرد بلوغ مطار طرابلس، لتتكفل هي بباقي الخطوات، يقول محمد .ع - رفض ذكر اسمه - الذي أجرى الاتصال الهاتفي معهم: "أبلغنا المهرب عبر الهاتف، أنه خلال ربع ساعة ستصل عدة سيارات تقلّنا من المطار إلى مدينة "زوارة" التي تقع غرب طرابلس بـ 120 كم، وصلت السيارات بعد نحو 30 دقيقة، حيث دخل شخص إلى قاعة المطار، وطلب من الجميع أن يلحقوا به ويتركوا مسافات فيما بينهم كي لا يلفتوا انتباه أمن المطار أنهم مجموعة واحدة، وتم ذلك بالفعل إلى أن أصبح الجميع خارج المطار، حيث صعد كل خمسة أشخاص في سيارة".
ويصف محمد الطريق بالقول: "انطلقت السيارات متفرقة عن بعضها، حتى بلغنا طريقاً صحراوياً، وفي كل عدة كيلو مترات من الطريق يتصل شخص بالسائق، من المرجح أنه كبير المهربين كان يطلب منه الذهاب من طريق معين وترك آخر".
"السائق كان يتم تبديله مع سيارته في مواقف خاصة، وبعد مسافات معينة هكذا حتى وصلنا إلى زوارة عند المساء" يقول محمد "وصل الجميع بنفس الطريقة إلى زوارة، وأقاموا في المنزل التابع للعصابة خمسة أيام، منعنا من مغادرة المنزل خلال هذه الأيام، إذ كان المهربون يؤمّنون لنا كل ما نحتاجه من طعام وشراب، على ألا نغادر باب المنزل الذي يحرسه أشخاص ليبيون على مدار الساعة".
الطريق إلى البحر
بعد خمسة أيام في مدينة "زوارة" القريبة من الحدود التونسية نحو 60 كم، أخطرت عصابة التهريب الجميع أنه حان وقت الإبحار، ومع حلول المساء بدأت السيارات تقل كل خمسة أشخاص إلى "فيلا" حديثة الإنشاء قرب البحر، حيث يقول هشام .ج - رفض ذكر اسمه - "دخلنا "للفيلا" الضخمة مساءً وكان سبقنا إليها العشرات، فيما استمر أفراد العصابة بجلب المزيد، حتى وصل عددنا في منتصف الليل إلى نحو ألف شخص، وبدأت الأعصاب تتشنج، وأفراد العصابة ظهر عليهم التوتر أكثر من أي وقت سابق، فاختلفت نبرتهم بالكلام معنا، مشددين على ضرورة إغلاق الهواتف المحمولة وألا نصدر أي صوت".
بعد عدة ساعات في هذا المبنى يضيف فراس "بدأوا يفرزونا كل 25 شخص تقريباً في مجموعة، صعدت مجموعتنا من نساء ورجال وأطفال في سيارة مغلقة معدة لنقل اللحوم لا تحوي أي نافذة أو إنارة، وسارت بنا نحو 8 دقائق كدنا نختنق فيها، وأصيب بعضنا بالإغماء نتيجة انقطاع الأوكسجين تماماً، قبل أن تتوقف السيارة على شاطئ البحر، حيث وجدنا 3 قوارب مطاطية صغيرة، وأمرنا أحد المهربين بالهرولة نحوها، فصعدنا المراكب التي انطلقت بنا في البحر نحو عشر دقائق لنصل إلى زورق خشبي كبير ومهترئ، كان بانتظارنا على بعد نحو 2 كيلومتر من الشاطئ".
عدد ممن تحدثنا إليهم حول نفس المرحلة أضافوا أن عملية جلب الناس من "الفيلا" المهجورة إلى الشاطئ ثم إلى الزوارق المطاطية، ومنها إلى المركب الخشبي استغرقت أكثر من ساعتين.
جشع المهربين
مجموعة محمد كانت أولى الواصلين إلى الزورق الخشبي كما اعتقدوا، وهنا يتحدث محمد مندهشاً مما اكتشفوه على متن القارب: "بدأت المراكب المطاطية تصل تباعاً نحو المركب حتى بلغ عدد الذين على متنه نحو 300 شخص بين رجال ونساء وأطفال "سوريين وفلسطينيين سوريين"، لكن المفاجأة أن المركب يحوي طابق سفلياً، اكتشفنا لاحقاً أن فيه 300 آخرون سبقونا وجمعيهم أفارقة، ليصل العدد في المركب إلى نحو 600 شخص في مركب لا يستوعب بأقصى حالاته 100 شخص".
يتذكر هشام هذه اللحظات متحدثاً عن جشع أفراد العصابة: "وزعت عصابة التهريب أقل من 100 سترة نجاة برتقالية اللون علينا قبل صعودنا للمركب، فيما بقي نحو 500 آخرون دون هذه السِتر، أصبحت الأجواء مشحونة تماماً لأن أفراد العصابة بدأوا يصرخون طالبين منا الجلوس والتزام الصمت وعدم المناقشة، في الوقت الذي لم يبق فيه سنتيمتر واحد فارغ على متن المركب، فاقتنع أفراد العصابة أن المركب لم يعد يستوعب أي شخص على الإطلاق".
لاحقاً غادر جميع أفراد العصابة الزورق الخشبي عائدين نحو الشاطئ بالمراكب المطاطية الصغيرة، وأدار سائق المركب "تونسي الجنسية" المحرّك وانطلقت الرحلة عند الرابعة فجراً، وأصبح 600 شخص بين نساء ورجال وأطفال على متن مركب بدائي مهترئ، تبلغ أبعاده بحسب من التقاهم "العربي الجديد" نحو 18 متراً طولاً، بعرض 4.5 أمتار، يخوضون البحر في مركب غير مجهز بأدنى وسائل النجاة في حال حصول طارئ.
أولى لحظات الوصول إلى جزيرة صقلية الإيطالية (العربي الجديد) |
المحطة الخامسة
أشرقت شمس اليوم التالي على ركاب الزورق الخشبي وسط البحر، لتغيب اليابسة عن الأنظار، سائق المركب قاده مستعيناً ببوصلة بدائية، وما هي إلا ساعات حتى أصاب المركب البدائي عطل في دفة التوجيه، فيما بدأ الأفارقة الموجودون بالطابق السفلي يتذمرون من نقص الأوكسجين بالأسفل ويشكون من تسرب المياه إليهم"، هذا ما قاله فراس الذي عاش اللحظة، مسترسلاً في وصف الموقف بالقول: "في هذه الأثناء كان البعض يقرأ القرآن، وآخرون يردّدون أدعية بصوت مرتفع، إلا أن أكثر ما راعني هو الصوت الذي ارتفع فوق أي صوت آخر.. إنه بكاء الأطفال المرتعدين خوفاً وذعراً".
سيطر الخوف والقلق على الجميع، بينما اتصل سائق المركب بخفر السواحل الإيطاليين بواسطة جهاز الثريا الذي بحوزته، حيث أعاق عامل اختلاف اللغة فهم الطرفين بعضهما، لكن وبعد عدة محاولات أبلغ خفر السواحل سائق المركب أنهم استطاعوا تحديد النقطة الموجود فيها المركب، وأن أقرب سفينة إنقاذ تحتاج نحو ساعتين للوصول إليهم.
يقول هشام وقد بدا عليه الارتياح "بعد نحو نصف ساعة لاحت حوامة عسكرية في الأفق، وبدأت بالاقتراب حتى أصبحت فوقنا تماماً، وبعدها بدقائق جاء الفرج وأبصرنا من بعيد بارجة بدت متوسطة الحجم، ثم بدأت تقترب أكثر فأكثر حتى ظهرت ضخامتها فتنفس الجميع الصعداء".
أرسلت البارجة التي ترفع علم حلف شمال الأطلسي "الناتو" زورقين صغيرين على متن كل منها ثلاثة بحّارة، وبدأوا بنقل الأطفال والنساء أولاً، ثم الرجال إلى البارجة، التي توقفت بعيداً عن المركب مسافة تقدر بكيلومتر، واستمر إخلاء الناس نحو ساعتين من المركب البدائي إلى البارجة، التي أبحرت بهم نحو 20 ساعة قبل أن تصل إلى شواطئ جزيرة "صقليّة" الإيطالية، حيث كاميرات الصحافة وعشرات رجال الشرطة وسيارات الإسعاف بانتظار 600 شخص كانوا على شفا حفرة من الهلاك، وعانوا ما عانوه، ليصلوا إلى أرض أوروبا.
لماذا المخاطرة؟!
استغرقت الرحلة من مدينة البيضاء إلى إيطاليا 15 يوماً كاملاً، بتكلفة نحو 3000 دولار أمريكي لكل شخص، تعرض كلٌّ منهم لكثير من المتاعب والمخاطر حيث كان الجميع في لحظات كثيرة على حافة الموت، ناهيك أن هذه الرحلة ستتلوها أخرى، فجميع هؤلاء اللاجئين يدرك أن ظروف اللجوء صعبة في إيطاليا ولكنها مدخل لابد منه إلى أوربا، حيث تتغاضى السلطات الإيطالية عنهم كما أن العديد من الدول الأوربية أسقطت البصمة الإيطالية ضمن دول الاتحاد الأوروبي.
وعن دوافع هؤلاء الناس للمخاطرة بأرواحهم وأطفالهم للوصول إلى أوروبا، يقول فراس .أ ( 25 عاماً): "أصبح الوضع في سورية قابلاً لكل شيء إلا للحياة، لا أمان هناك ولا عمل ولا يوجد أمل لأي حل في المستقبل القريب، ناهيك على أن الدول العربية التي لم تعد تستقبلنا وإن فعلت أذلتنا، فكان علينا أن نتابع حياتنا رغم المخاطرة الكبيرة، فلكل مِنّا آماله وطموحاته، إلا أننا الآن نستطيع هنا في أوروبا أن نعيش من جديد على الأقل بالحد الأدنى من الأمان".
من جهته يضيف محمد متحسراً "أنا طالب فقدت مستقبلي العلمي والمهني الجامعي، ولست الوحيد فلكل واحد على المركب قصته وكل قصة أكثر مرارة من الأخرى، هناك أُناسٌ لم يتبق لديهم في سورية لا منزل ولا عمل، إضافة أنني أبحث كغيري من السوريين عن جواز سفر وجنسية بلد آخر، بعد أن ضاعت بلادنا وأصبحت هويتنا تهمة تلتصق بنا أينما ذهبنا، خاطرنا بحياتنا وهاجرنا، ولكن لم يجبرنا على المرّ إلا الأكثر مرارة".