10 ابريل 2019
السودان ومساومة التطبيع مع إسرائيل
لم يعد خبراً عزم الحكومة السودانية تطبيع علاقاتها مع إسرائيل، ففي كل مرة، يُلقي نظام الإنقاذ بتصريح التطبيع على لسان وزير مختلف، بالون اختبار يمتص شيئاً من الرفض الشعبي للفكرة. لكن الغريب فعلاً هو تحوّل الأمر إلى مزايدة سياسية بين الحكومة وحزب الأمة، بشقيه المعارض والمؤتلف.
بدأ اقتراح التطبيع داخل أروقة الحكومة، عندما كشفت تسريبات "ويكيليكس" عن برقية أُرسلت في 29 يوليو/ تموز 2008، صرّح فيها مصطفى عثمان إسماعيل مستشار الرئيس عمر البشير وقتها أنّ حكومة بلاده تقترح على الولايات المتحدة أوجهاً للتعاون، تتضمن تطبيع العلاقات مع إسرائيل. ثم صرّح وزير الخارجية الحالي، إبراهيم غندور، أنّ السودان يمكن أن يدرس المسألة التطبيع. وامتد الأمر إلى لجنة العلاقات الخارجية في مؤتمر الحوار الوطني التابعة لحزب المؤتمر الوطني (الحاكم) التي أيّدت إقامة علاقات طبيعية مشروطة مع إسرائيل، على اعتبار أنّ جامعة الدول العربية تدعم هذا الاتجاه، واقترحت اللجنة أن يكون التطبيع أحد توصيات الحوار. والآن، جاء دور وزير الاستثمار، مبارك الفاضل المهدي، دليلا على أنّ هذه التصريحات لا تأتي بهذا التواتر من فراغ. وإزاء هذه الوقائع، التفنيد المقتضب لبعض الأصوات الباهتة من داخل النظام لتصريح مبارك الفاضل بأنّه رأي شخصي يمثّله، ولا يمثّل الحكومة، يكاد يكون مجرد مناورة تسمح بمسافة محدّدةٍ، تتقاذف فيها الحكومة كرة التطبيع بينها وبين المعارضة، حتى تستقرّ في يدها.
وقد حاول القريبان اللدودان المتنافسان على أحد أكبر الأحزاب الطائفية (حزب الأمة)،
الصادق المهدي ومبارك المهدي، أن ينالا من مواقف بعضهما إعلاء لشأنهما السياسي. الصادق في معارضته، ومبارك في انتمائه المتجدّد، بين فينة وأخرى، داخل الحكومة وخارجها. ومما طفا على السطح من خبر قديم عن لقاء جمع الصادق وشيمون بيريز رئيس الوزراء الإسرائيلي، رئيس دولة إسرائيل السابق، في 2005 تم نفيه. ولكنه عاد وأقرّ بأنّه اقترب من بيريز وصافحه، على هامش القمة الدولية حول الديمقراطية والأمن ومكافحة الإرهاب في مدريد. وجاءت هذه الفرصة من ذهبٍ لحزب الأمة للتكسّب السياسي، فأكد أنّ زعيمه معارض للتطبيع الثنائي، أو غير المشروط، منذ اتفاقية كامب ديفيد، ويرفض التطبيع مع إسرائيل إلّا في إطار حل سلمي عادل يفرض على إسرائيل عبر الإرادة الدولية التي ساهمت في إحداث المشكلة بالأساس. وهنا يمكن أن يُرى، بوضوح، أنّه لا فرق يُذكر بين موافقة الحكومة ورفض حزب الأمة، فالاثنان أتيا وفق شروطٍ تؤدي، في النهاية، إلى نتيجة التطبيع، مع اختلاف الوسائل.
كانت الصلة التاريخية بين الموقفين في عهد سكرتير عام حزب الأمة ورئيس وزراء أول حكومة بعد استقلال السودان عام 1956، عبدالله بك خليل. وقد أرّخت مراجع إسرائيلية، وكتاب للأكاديمي والسفير السابق، محمد عمر بشير، للعلاقة بين حزب الأمة وإسرائيل منذ خمسينيات القرن الماضي. نشأت العلاقات منذ 1956، وامتدت إلى 1958، على خلفية علاقة اقتصادية بدأت في لندن واسطنبول حتى باريس التي التقى فيها عام 1957 رئيس الوزراء السوداني، عبد الله خليل، بوزيرة الخارجية الإسرائيلية، غولدا مائير. وكانت أهم محاور اللقاءات تقديم إسرائيل مساعدات ماليّة لحزب الأمة على شكل قروض، لتمكينه من مواجهة النفوذ المصري في السودان، وكذلك مواجهة الأحزاب السودانية، خصوصا الاتحادي الديمقراطي، وهو الحزب الطائفي المنافس الأول لحزب الأمة، والذي كان يدعو إلى وحدة وادي النّيل والحفاظ على علاقات متطوّرة بين السودان ومصر. أما "الأمة" فكان يناصب مصر العداء في اختياره الاستقلال عن مصر، وعدم الاتحاد معها بعد خروج بريطانيا، وفصل السودان عن أيّ اعتماد اقتصادي على مصر، وكذلك البحث عن شركاء آخرين لتحقيق الأهداف الإسرائيلية في السودان.
توّجت تلك التحركات بالاتفاق على تقديم قرض لزعيم حزب الأمة وقتها، الصدّيق المهدي،
الابن الأكبر للمهدي، وقيمته 300 ألف دولار، على أن يوقع إيصالاتٍ لضمان سداد المبلغ. والبحث في أوروبا والولايات المتحدة عن طرقٍ لجمع الأموال، لاستعمالها في مشاريع اقتصادية في السودان، توضع تحت تصرّف إسرائيل. أما ما شرحه محمد أحمد عمر، نائب الأمين العام لحزب الأمّة وقتها، من قلق السودان المتعاظم من محاولات مصر زيادة نفوذها في السودان، على الرغم من اعتراف مصر أمام الخارج باستقلال السودان، فقد ختمه بعبارة "مصالح السودانيين الذين يتمسّكون باستقلال السودان تتماهى مع مصالح إسرائيل ضدّ الخطر المشترك المتمثّل في مصر".
واضح أنّ الحكومة السودانية تتنبى هذه الخطوة نحو التطبيع، وتهييء الشعب لها، وتمهّد لها تدريجياً، خصوصا بعد قطع العلاقات مع إيران. ففي العام الماضي، ناشدت إسرائيل الولايات المتحدة وأوروبا بتحسين العلاقات مع الحكومة السودانية، بما شرحته من وقف تهريب الحكومة السلاح إلى غزة، وقطعها علاقاتها مع إيران، وانضمامها إلى محور الدول السنية المناوئ لطهران. وبمحاولاتها المتجدّدة، تحاول الحكومة السودانية امتصاص الغضب الشعبي، وتذهب إلى خطوة أبعد، وهي العمل على أن يخرج قرار التطبيع كأنّه من الشعب مباشرة. لذا، عمدت إلى إلقاء استطلاعاتٍ لا تخضع لأيّ شروط علمية في حسابات بعض الجماعات المؤيدة على وسائل التواصل الاجتماعي، للزعم أنّ نتائجها تؤيد قرار التطبيع. وإذ تفعل ذلك، تكون قد وصلت مع الشعب السوداني إلى مساومة تاريخية، متوهمة أنّها ستنهي حالة الرفض القاطع للعلاقة مع إسرائيل القائمة على أسباب أخلاقية وسياسية.
بدأ اقتراح التطبيع داخل أروقة الحكومة، عندما كشفت تسريبات "ويكيليكس" عن برقية أُرسلت في 29 يوليو/ تموز 2008، صرّح فيها مصطفى عثمان إسماعيل مستشار الرئيس عمر البشير وقتها أنّ حكومة بلاده تقترح على الولايات المتحدة أوجهاً للتعاون، تتضمن تطبيع العلاقات مع إسرائيل. ثم صرّح وزير الخارجية الحالي، إبراهيم غندور، أنّ السودان يمكن أن يدرس المسألة التطبيع. وامتد الأمر إلى لجنة العلاقات الخارجية في مؤتمر الحوار الوطني التابعة لحزب المؤتمر الوطني (الحاكم) التي أيّدت إقامة علاقات طبيعية مشروطة مع إسرائيل، على اعتبار أنّ جامعة الدول العربية تدعم هذا الاتجاه، واقترحت اللجنة أن يكون التطبيع أحد توصيات الحوار. والآن، جاء دور وزير الاستثمار، مبارك الفاضل المهدي، دليلا على أنّ هذه التصريحات لا تأتي بهذا التواتر من فراغ. وإزاء هذه الوقائع، التفنيد المقتضب لبعض الأصوات الباهتة من داخل النظام لتصريح مبارك الفاضل بأنّه رأي شخصي يمثّله، ولا يمثّل الحكومة، يكاد يكون مجرد مناورة تسمح بمسافة محدّدةٍ، تتقاذف فيها الحكومة كرة التطبيع بينها وبين المعارضة، حتى تستقرّ في يدها.
وقد حاول القريبان اللدودان المتنافسان على أحد أكبر الأحزاب الطائفية (حزب الأمة)،
كانت الصلة التاريخية بين الموقفين في عهد سكرتير عام حزب الأمة ورئيس وزراء أول حكومة بعد استقلال السودان عام 1956، عبدالله بك خليل. وقد أرّخت مراجع إسرائيلية، وكتاب للأكاديمي والسفير السابق، محمد عمر بشير، للعلاقة بين حزب الأمة وإسرائيل منذ خمسينيات القرن الماضي. نشأت العلاقات منذ 1956، وامتدت إلى 1958، على خلفية علاقة اقتصادية بدأت في لندن واسطنبول حتى باريس التي التقى فيها عام 1957 رئيس الوزراء السوداني، عبد الله خليل، بوزيرة الخارجية الإسرائيلية، غولدا مائير. وكانت أهم محاور اللقاءات تقديم إسرائيل مساعدات ماليّة لحزب الأمة على شكل قروض، لتمكينه من مواجهة النفوذ المصري في السودان، وكذلك مواجهة الأحزاب السودانية، خصوصا الاتحادي الديمقراطي، وهو الحزب الطائفي المنافس الأول لحزب الأمة، والذي كان يدعو إلى وحدة وادي النّيل والحفاظ على علاقات متطوّرة بين السودان ومصر. أما "الأمة" فكان يناصب مصر العداء في اختياره الاستقلال عن مصر، وعدم الاتحاد معها بعد خروج بريطانيا، وفصل السودان عن أيّ اعتماد اقتصادي على مصر، وكذلك البحث عن شركاء آخرين لتحقيق الأهداف الإسرائيلية في السودان.
توّجت تلك التحركات بالاتفاق على تقديم قرض لزعيم حزب الأمة وقتها، الصدّيق المهدي،
واضح أنّ الحكومة السودانية تتنبى هذه الخطوة نحو التطبيع، وتهييء الشعب لها، وتمهّد لها تدريجياً، خصوصا بعد قطع العلاقات مع إيران. ففي العام الماضي، ناشدت إسرائيل الولايات المتحدة وأوروبا بتحسين العلاقات مع الحكومة السودانية، بما شرحته من وقف تهريب الحكومة السلاح إلى غزة، وقطعها علاقاتها مع إيران، وانضمامها إلى محور الدول السنية المناوئ لطهران. وبمحاولاتها المتجدّدة، تحاول الحكومة السودانية امتصاص الغضب الشعبي، وتذهب إلى خطوة أبعد، وهي العمل على أن يخرج قرار التطبيع كأنّه من الشعب مباشرة. لذا، عمدت إلى إلقاء استطلاعاتٍ لا تخضع لأيّ شروط علمية في حسابات بعض الجماعات المؤيدة على وسائل التواصل الاجتماعي، للزعم أنّ نتائجها تؤيد قرار التطبيع. وإذ تفعل ذلك، تكون قد وصلت مع الشعب السوداني إلى مساومة تاريخية، متوهمة أنّها ستنهي حالة الرفض القاطع للعلاقة مع إسرائيل القائمة على أسباب أخلاقية وسياسية.