السودان.. رفع العقوبات وبداية النهاية

17 أكتوبر 2017
+ الخط -
لم تكن العقوبات الأميركية على السودان المشكلة الوحيدة، ولن يكون رفعها بعد عقدين على فرضها الحل السحري لمشكلات السودان الاقتصادية والسياسية، إنّما تقع ضمن وسائل عديدة لحلّ هذه المشكلات. يرتبط الجزء الأهم من هذه الوسائل بالداخل السوداني وممارسات الحكم في إطار الدولة الشمولية، والتي لم تنفصل فترتها الممتدة منذ استقلال البلاد في خمسينيات القرن الماضي سوى من ثلاث فترات ديمقراطية قصيرة، تنتهي في كلّ مرة بنظامٍ عسكريّ أكثر قمعاً وأطول عمراً.
يتيح هذا القرار الأميركي التاريخي للحكومة زمناً إضافياً للبحث عن مبرّرات أخرى، تقدّمها للشعب عن سبب فشلها في إدارة حكم البلاد، كما يتيح للمواطنين فرصة مواجهة الحكومة، بعد أن انكشف الغطاء، فهي إذن أمام خيارين: الإصلاح أو أن تفنى مع الوضع المنهار. في خضم التحديات والمشكلات الحقيقية التي تواجه الاقتصاد السوداني، لم تتأثّر العصبة الحاكمة وأقرباؤها بما يعاني منه بقية المواطنين، فلم يختبروا شظف العيش، ولا انعدام الأدوية، ولا رداءة العلاج في المستشفيات الحكومية. ففي قصور دبي الفارهة متسعٌ لهم ولعائلاتهم ومعارفهم، وفي مستشفيات أوروبا وأميركا حجوزات قائمة على مدار السنة، لمواصلة السياحة العلاجية. ولاستعادة الاستقرار السياسي والاقتصادي، يبدو أنّه مكتوب على جبين الشعب السوداني الخضوع لتجربة أخرى بنظام الحكم نفسه.
يرى خبراء أن قرار رفع العقوبات سيكون محدود الأثر على الاقتصاد السوداني في المدى القصير. وفي الوسع أن تظهر آثار إيجابية، ولكن هذا يتطلّب من الحكومة السودانية إثبات مصداقيتها، بشكل يعتمد على وضع إجراءات لتحقيق الاستقرار وتنفيذها. ولن تتحقق هذه الإجراءات في ظلّ الفساد والمحسوبية وعدم الشفافية التي صاحبت الإنفاق العام من موارد
الدولة، ابتداءً من عائدات النفط والذهب والعائدات الزراعية وغيرها. ولن يكون بمعزل عن المحسوبية في شغل وظائف الدولة المرموقة بمحسوبي النظام وأهل الولاء، وتعطيل الكفاءات السودانية، وإرغامها على الهجرة.
لم ترفع الولايات المتحدة اسم السودان عن قائمة الدول الراعية للإرهاب، ولم ترفع الجزء الخاص بالعقوبات المتعلقة بإقليم دارفور، ولم ترفّع بعد من نظام تعيين مبعوثين لها إلى السودان، ولم ترفع القيود على المساعدات الخارجية الأميركية ومبيعات الأسلحة إلى السودان. فالواضح أنّها ما زالت تحتفظ بطرفٍ من العصا، لاستخدامها عند الضرورة لتسوية الخلافات بشأن ما تراه هي صائباً وأخلاقياً، وفقاً لمعاييرها.
على الرغم من الفرح العارم داخل السودان وخارجه، لرفع العقوبات ابتداء، وأنّه لا يحقّ لدولة أن تفرضه على أخرى في كامل سيادتها، إلّا أنّ الأسئلة المختبئة وراء هذا الانفراج يثير المخاوف بشأن مزاجية الإدارة الأميركية في عهد ترامب. صحيحٌ أنّ هذه القرارات بدأها الرئيس السابق، باراك أوباما، لكنها وُضعت رهينة شروط يبدو تحقيقها مستحيلا بين ليلة وضحاها، ناهيك عن التقرير عنها، حتى ولو كان في نية الحكومة البدء في تنفيذها. فلم تستجب الحكومة للشروط التي تم رهن القرار بسببها ستة أشهر ماضية، أو ما سُميت المسارات الخمسة: مكافحة الإرهاب، عدم دعم المعارضة في جنوب السودان، السماح بتوصيل المساعدات الإنسانية، وقف الحرب، وحقوق الإنسان.
لم يتم تحسين وضع حقوق الإنسان في السودان، وما زالت حرية التعبير مكتومة، ولا يزال اعتقال الصحفيين وإغلاق الصحف وكل الممارسات اللا إنسانية تجري على رؤوس الأشهاد. كما تواصل الحكومة دعم المعارضة من دولة جنوب السودان، فقبل أيام معدودة، استقبلت الحكومة نائب رئيس دولة جنوب السودان المقال، رياك مشار، الذي قاد تمرداً يهدف إلى إطاحة نظام الرئيس سلفاكير ميارديت، قبل نفيه إلى الخارج. أما النزاعات فما زالت قائمةً، في بلد تم تهميش مدنه وقراه البعيدة، وفصلها عن المركز، حتى ليظنّن أنّه لا علاقة لهم بما يجري في أنحاء السودان الأخرى. وفي بند مكافحة الإرهاب من الضبابية ما يكفي للحيرة والسؤال عن ماهية الإرهاب نفسه، في التعريف الذي تبنته بعض الدول العربية وأميركا، ولا ينطبق بالضرورة على السودان بحدوده الجغرافية المعروفة. هذا بالإضافة إلى بندٍ غريب جاء ملحقا، وهو ضمان أنّ حكومة السودان ملتزمة بالتنفيذ الكامل لقرارات مجلس الأمن الدولي بشأن
كوريا الشمالية، ومصدر الاستغراب هنا إلزام السودان بهذا القرار، بينما يُسمح لصفقات شحنات الأسلحة السرية من كوريا الشمالية إلى مصر يتوزّع نسبها بين حكومة عبد الفتاح السيسي ورجال أعمال مصريين، وغضّ الطرف الأميركي عن ذلك كله، على الرغم من وصولها إلى قناة السويس وزعم إتلافها.
لم تكن كل هذه الشروط لتضمن رفع العقوبات أن يتحقّق في عهد أوباما أو أي وقت آخر غير عهد ترامب الذي يلعب بورقة المصالح وبيع المواقف والمبادئ التي ظلّت تتشبّث بها الإدارة الأميركية، وتدّعيها في أحيانٍ كثيرة. ولو سأل سائلٌ ماذا عند الرئيس عمر البشير ليبيعه لترامب، ففي الواقع ليس لديه شيء، وإنّما يمكنه التصرّف في السودان، بشرا وموارد وممتلكات وسيادة دولة، من أجل غرض واحد هو البقاء في السلطة. أولى هذه الصفقات كانت جزءاً عزيزاً من المليون ميل مربع هو جنوب السودان. ثم توالى المزاد العلني والسري الذي ظلّ يقدّمه البشير قرابين حيّة، خدمةً للمصالح الدولية والإقليمية، حتى لو أدى ذلك إلى الدخول في محارق حروبٍ ومتاهاتٍ وتفاصيل علاقات متشابكة، ليس له فيها وجه واضح يمكن أن يُعبّر عنه بمع أو ضد، وهو ما سمته أروقة الإدارة الأميركية بإيفاء السودان بالمحافظة على التعاون مع الولايات المتحدة في معالجة الصراعات الإقليمية وتهديد الإرهاب.
8615DCBC-E386-43F8-B75E-8FF0C27360A3
منى عبد الفتاح

كاتبة صحفية من السودان. حاصلة على الماجستير في العلوم السياسية. نالت دورات في الصحافة والإعلام من مراكز عربية وعالمية متخصصة. عملت في عدة صحف عربية. حائزة على جائزة الاتحاد الدولي للصحفيين عام 2010، وجائزة العنقاء للمرأة المتميزة عام 2014.