السودانيون.. شعب تحت "الصدمة"

28 سبتمبر 2018

أمام مخبز في الخرطوم (26/8/2018/فرانس برس)

+ الخط -
أطلّ رئيس وزراء السودان الجديد، معتز موسى، إبّان تعيينه الأسبوع الماضي، ليتحدّث عن مشكلات الاقتصاد السوداني. وقبل أن يتعرّف الناس إلى الرجل الذي كان بعيداً عن التصريحات الإعلامية، على الرغم من شغله مناصب مهمة في الدولة، ليصرّح، في أول خطاب له إلى العاملين في الأمانة العامة لمجلس الوزراء، بأنّ أولويات الحكومة تنفيذ برنامج إصلاح اقتصادي وهيكلي شامل، يبدأ ببرنامج صدمة قصير الأجل؛ حتى صارت "الصدمة" اسماً للحكومة الجديدة، سارت به الركبان ووسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي.
لم يكن المواطنون قد اطلعوا بعد على باقي المنظومة، لكنهم تغنّوا كثيراً بخطة الحكومة، ونال معتز موسى النصيب الأكبر من هذه الموشحات، لأنّه جاء خلفاً لبكري حسن صالح الذي اشتهر بخمول عمله وذكره معاً، فقد كانت بداية تغيير حكومة الوفاق الوطني شعاراً برّاقاً لاقى معجبين كثيرين. وتمدّد الشعار الوهم الذي احتل مساحة كبيرة في ذهن الجمهور. أما الحقيقة فهي أنّ برنامج الحكومة لم يُكتب له النجاح، بل فشل فشلاً ذريعاً، ولكن التعبئة الإعلامية التي اتبعتها الحكومة رفعت سقف التوقعات لدى السودانيين، حتى ارتطموا بالتشكيل الوزاري الذي عمل على تدوير وزراء الحزب الحاكم في الحكومة الجديدة، كأنّهم ورثوا الانتقال من وزارة إلى أخرى منذ نحو ثلاثين عاماً. كما اتضح أنّ مسلسل المحاصصات السياسية مستمر، فالتدوير طاول أسماء معروفة ومكرّرة لوزراء من الأحزاب السياسية المشاركة في الحوار مع الحكومة.
لم تكن الخيبة في معتز موسى الذي يرتبط بصلة قرابة مباشرة بالرئيس عمر البشير في 
شخصه فقط، وإنّما فيما خبره الناس عنه، في فشل دائم في إدارة الكهرباء من قبل، من دون أن يظهر إلى الأضواء في ظلام الخرطوم الدامس. واستطاع بين ليلة وضحاها أن يمتصّ حماس الناس، عند توليه حقيبة وزراة المالية جنباً إلى جنب مع رئاسة الوزراء، بعدما فشلت الحكومة في إقناع الخبير الاقتصادي الإقليمي، عبد الله حمدوك، والذي كان يشغل منصب كبير المسؤولين في وزارة المالية والتخطيط الاقتصادي في السودان (1981-1987). وبعد قيام النظام الحالي كان من أوائل المفصولين للصالح للعام. ثم غادر السودان، وشغل عدة مناصب مهمة، منها رئيس المستشارين الفنيين لمنظمة العمل الدولية في زيمبابوي، وقاد أنشطة اللجنة المكلفة بإدارة ووضع السياسات (نيباد) والتكامل الإقليمي والحكامة والإدارة العمومية. ثم عمل في المعهد الدولي للديمقراطية والمساعدة الانتخابية (IDEA) بصفته مديراً إقليمياً لأفريقيا والشرق الأوسط. وتم تعيينه، في العام 2016، في منصب الأمين التنفيذي بالوكالة لأمانة اللجنة الاقتصادية لأفريقيا (ECA) من الأمين العام السابق للأمم المتحدة، بان كي مون. وباعتذار حمدوك عن هذا المنصب المهم والحساس، واعتذار وزراء آخرين، يتضح حجم المأساة بالزهد في وزارات هذه الحكومة من بعضهم، والتكالب عليها من آخرين.
وعلى الرغم من ارتباط معتز موسى سابقا بمنصب خدمي يمس حياة الناس ومعاشهم بشكلٍ مباشر، إلّا أنّ سيرته الذاتية لم تظهر من الأضابير إلّا بعد توليه رئاسة مجلس الوزراء، وفيها أنّه كان من شباب المحاربين في صفوف الدفاع الشعبي، ذراع الحكومة المنتمي للحركة الإسلامية في جنوب السودان. كما أنّه فور تخرجه من جامعة الخرطوم، صعد مباشرة إلى إدارات مراكز كبيرة تابعة للدولة، متسلقاً على حبل التمكين الذي أزال الكفاءات الوطنية إلى الصالح العام ممن عدّهم النظام في بداياته أعداء له، وبقايا النظام الديمقراطي في حكومة الصادق المهدي.
انقسمت وسائل الإعلام ما بين مسوّق لما جاء من تصوّراتٍ على لسان رئيس الحكومة الجديد وساخر منها كونها جاءت بدون أفق للحل، فيما يتعلّق بمسألة الميزانية العامة ووزارة المالية. وقد تجاوزت هذه الحملة الإعلاميّة توضيح الصورة، وتحوّلت إلى جزء من حملة الترويع التي تهدف إلى تسويق (الصدمة) إجراءً لرئيس الوزراء الجديد.
عقيدة الصدمة الأكثر شبهاً بحالات التشفّي من المواطنين نظرية اقتصادية رأسمالية، بلورها عالم الاقتصاد الأميركي ميلتون فريدمان، في قسم العلوم الاقتصادية في جامعة شيكاغو، واشتهر فريدمان بإثارته الجدل في دعوته إلى الحرية المطلقة للأسواق، بهدف التغلب على الحواجز الديمقراطية وإضعافها، واهتمام استراتيجية الصدمة بالرأسماليين، على حساب فئات المجتمع الضعيفة. وهي في مضمونها تعني فلسفة القوة، أو التكتيك الذي يهدف إلى فرض النظريات الليبرالية المتطرّفة. ومن ضمن أفكاره أنّ التضخم ظاهرة نقدية، يمكن للبنوك المركزية في الدول محاربته بالحفاظ على توازن العرض والطلب، عن طريق سياسات تحجيم السيولة.
ربما أراد رئيس الوزراء الجديد إحداث تغيير بزوبعة تعبير اقتصادي مثير للجدل، لكنه بسرعة فائقة استطاع أن يقلب عليه أصوات من استبشروا به خيراً. وعلى الرغم من أنّ الشعب السوداني يعيش تحت تأثير عقيدة الصدمة منذ حوالى عامين، إلّا أن التصريح بها كشيء قادم ينبئ بأنّ الشعب موعودٌ بأيام حالكة، فقد حجرت الحكومة على أمواله في البنوك، وعطلت الصرّافات الآلية، وأرجعت صفوف الخبز والوقود، وظهر ذلك في معاناته من دون أن يدري أنّ الحكومة افتعلت المشكلات في الخفاء، واستفادت من نتائج الكوارث والأزمات، بعدما التقطت قفاز فريدمان من قارعة النظم الرأسمالية، وبدأت في تطبيقها فعلياً بدون وعي.
كل ما صاغه فريدمان من نظرياتٍ كارثية تجرّبه الحكومة السودانية على رؤوس مواطنيها 
اليتامى، ففضلاً عن استغلال الكوارث العديدة التي مرت بالسودان، فإنّها افتعلت كوارث عديدة ثم استغلت تبعاتها، فقد صنعت انفصال الجنوب، وانهيار الاقتصاد، وحرب دارفور التي ساندت فيها القبائل العربية على حساب القبائل الأخرى، كما استغلت نتائج الفيضانات وموجات الجفاف والتصحّر التي ضربت البلاد عدة مرات منذ مجيء النظام الحالي. وتعتمد هذه الوسائل ونتائجها الكارثية على حالة الاضطراب السياسي الذي جعل الشعب يعيش في حالةٍ من الترويع إلى درجة تشلّ تفكيره. وهذه الحالة هي أنسب الأوقات لتنفيذ أي نوع من القرارات المرفوضة في الوقت الطبيعي، لأنّه ستتلاشى المطالب، حتى تصل إلى الرغبة في البقاء على قيد الحياة فقط.
وعلى الرغم من تعوّد الشعب السوداني على الصدمة التي فُرضت عليه، ونُفذّت ببطء، فإنّ معالجة اختلالات معاملات الطلب الكلي، وفي مقدمتها التضخم وسعر صرف العملة الوطنية، وإيجاد أرضية صلبة لمعالجة (واستدامة) فك الاختناقات الهيكلية والتشوهات التي لحقت بالاقتصاد، تحتاج إلى إصلاح سياسي أكثر من خبرة اقتصادية، فالحكومة ستكون قادرة على إنجاز هذا البرنامج حين تكون فقط حكومة منتخبة، وتحارب الفساد لا تربيه وتحتضنه، وحين تضع مصلحة الشعب ومنفعته أعلى من مصلحتها ومنفعتها. كل هذا الارتباك هو خطوة للهروب إلى الأمام، للوصول إلى العام 2020 لإجراء انتخاباتٍ كسابقاتها، لن تحرّك المياه الراكدة، ولن تسري الدم في شرايين المؤسسات الاقتصادية المنهارة.
دلالات
8615DCBC-E386-43F8-B75E-8FF0C27360A3
منى عبد الفتاح

كاتبة صحفية من السودان. حاصلة على الماجستير في العلوم السياسية. نالت دورات في الصحافة والإعلام من مراكز عربية وعالمية متخصصة. عملت في عدة صحف عربية. حائزة على جائزة الاتحاد الدولي للصحفيين عام 2010، وجائزة العنقاء للمرأة المتميزة عام 2014.