السنيورة والشهادة المضبطة

28 مارس 2015

من شهادة فؤاد السنيورة في المحكمة الدولية (يوتيوب)

+ الخط -

أعاد رئيس الحكومة اللبنانية السابق، فؤاد السنيورة، تسليط الأضواء على مسار المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، في جريمة اغتيال رئيس الحكومة اللبناني الأسبق، والشخصية الأهم في مرحلة ما بعد الحرب، رفيق الحريري، بتفجيره قنبلة من العيار الثقيل، عندما قال، في شهادته أمام القضاة في لاهاي، إن الحريري أخبره يوماً إن حزب الله حاول اغتياله مرات. وكشف أن الحريري بكى، مرة، على كتفه، في نهاية عام 2003، من شدة الإهانة التي تعرض لها في لقاء مع رئيس النظام السوري، بشار الأسد.

يشكل كلام السنيورة حدثاً، وله أهمية خاصة، نظراً للصداقة العميقة التي كانت بين الرجلين. فقد ولدا وترعرعا في صيدا، والتقيا على مقاعد الدراسة، وجمعتهما في مرحلة النضال الشبابي خلية في حركة القوميين العرب التي نشأت، بداية الخمسينيات. وانتقلا، في بداية الستينيات، إلى الدراسة الجامعية في بيروت، ثم افترقا سنوات إثر سفر الحريري للعمل في السعودية. وفي بداية الثمانينيات، عاد الحريري رجل أعمال ناجحاً وطموحاً حالفه الحظ، ودفعه حبه لبنان إلى العودة، وركوب مغامرة إعادة إعمار ما دمرته الحرب التي اندلعت عام 1975، وما خلّفه الاحتلال الإسرائيلي عام 1982 أول عاصمة عربية في التاريخ الحديث.

وفي 1992 حمل اتفاق الطائف رفيق الحريري، من خارج الطبقة السياسية، إلى الحكم، في تكليفه تشكيل حكومة مواجهة تحديات مرحلة ما بعد الحرب. وكانت الأطراف المتحاربة قد وقعت، في خريف 1989، على الاتفاق، وكان للحريري دور فيه إلى جانب المملكة العربية السعودية. وطلب من صديقه، السنيورة، الذي كان يومها محاضراً في الجامعة الأميركية في بيروت، ورئيساً للجنة الرقابة على المصارف، أن يشارك في الحكومة وزيراً للمالية. ليعود هكذا السنيورة إلى جانبه، طوال فترة حياته السياسية، رقما ثابتاً في الحكومات التي رأسها الحريري منذ 1992 إلى خريف 2004، قبل أن يتم اغتياله في 14 فبراير/شباط 2005.

وتشاء الظروف أن يخلف السنيورة في رئاسة الحكومة رفيق عمره، ليتصدر مرحلة انتقالية مليئة بالتحديات والمخاطر، وليثبت أيضا جدارته، ويفاجئ الوسط السياسي واللبنانيين بقدراته رجل دولة بامتياز. فواجه بصموده الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو/تموز 2006، ولم يتوان، في الوقت نفسه، عن تحميل حزب الله مسؤولية "استجلاب" الحرب، بخطفه، من دون علم الحكومة، جنديين إسرائيليين خارج الخط الأزرق الحدودي، واللذان تبين لاحقاً أنهما خطفا ميتين.

وتابع السنيورة معركة إنشاء المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، والتي تم تبني المطالبة بها بعد ساعات من اغتيال الحريري، فيما رفض تشكيلها حزب الله والقوى التي تدين بالولاء للنظام السوري، وانسحب هؤلاء من الحكومة بهدف تعطيلها، وقطع الطريق على إمكانية اتخاذ قرار في هذا الخصوص. ولكن، استمر السنيورة رئيساً للحكومة، على الرغم من احتلال حزب الله وسط بيروت، ومحاولته تطويق القصر الحكومي ومحاصرته سنة ونصف السنة. وفي بداية عام 2007، أثمرت جهود رئيس الحكومة، آنذاك، صدور قرار الأمم المتحدة 1757 القاضي بإنشاء المحكمة، وتم تشكيلها وانطلاقها في مايو/أيار 2009 في لاهاي.

وواجهت حكومة السنيورة، أيضاً، أول ظاهرة إرهابية هي "فتح الإسلام" التي صدّرها النظام السوري إلى لبنان في مايو/أيار2007، أي بعد أشهر من تشكيل المحكمة. وخاض الجيش اللبناني مواجهة قاسية مع هذه المجموعة التي تحصنت في مخيم نهر البارد الفلسطيني، في شمال لبنان. واضطر حزب الله إلى التعايش مجددا مع السنيورة الذي عاد وشكل الحكومة مرة ثانية، إثر توقيع طرفي قوى 14 و8 آذار "اتفاق الدوحة" في مايو/أيار 2008 الذي يسّر انتخاب رئيس جديد للجمهورية، وانسحاب حزب الله من الوسط التجاري لبيروت. ولم يغفر حزب الله للسنيورة مواقفه وثباته في كل هذه المحطات المفصلية، وذهب إلى حد اتهامه في حرب تموز بالتواطؤ مع إسرائيل، ووصفه بشتى النعوت.

من هنا، إن ما كشفه أمام المحكمة الدولية يفسّر، على الأرجح، الحملة التي شنها عليه حزب الله، قبل أسبوع من سفره إلى لاهاي، للإدلاء بشهادته، لأنه تجرأ وحذر من "مشروع الإمبراطورية الفارسية" في اجتماع لقوى 14 آذار. وربما كان القصد من الحملة تحذيره وإرهابه، فلا يتجرأ على كشف ما لديه من معلومات ووقائع، بحكم أنه "كاتم أسرار" الحريري. وقد ذهب أحد الأبواق "الممانعة" في "8 آذار" إلى حد إلصاق تهمة به، هي الجاهزة التي يتم، عادة، قذف الخصوم بها، قائلا: "إنه جزء من المشروع الإسرائيلي". فيما يفاخر نائب أمين عام حزب الله، نعيم قاسم، بأنهم بأمرة "ولاية الفقيه". وللمفارقة، هناك حوار يدور، منذ نحو ثلاثة أشهر، بين حزب الله وتيار المستقبل الذي يرأس السنيورة كتلته البرلمانية، بهدف تخفيف الاحتقان السني-الشيعي وبين الشارعين.

أسهب السنيورة، كعادته، في شرح مراحل العلاقة المريرة والضغوط التي تعرض لها الحريري من النظام السوري. فالمصاعب بدأت مع حافظ الأسد، منذ 1996، عندما فُرضت عليه ثاني حكومة شكلها من ثلاثين وزيراً، لم يكن محسوباً عليه منهم سوى أربعة. ثم اشتدت الضغوط وتدهورت العلاقة مع مجيء بشار إلى الحكم في دمشق عام 2000. فكان الحريري موضوعاً تحت المجهر من النظام الأمني السوري-اللبناني المشترك، وكان رئيس الجمهورية، آنذاك، إميل لحود، في المرصاد لمنع إقرار أي مشروع إصلاحي، أو تنموي، داخل مجلس الوزراء، "خوفاً من اتساع شعبيته". وفي كل مرة، كان يقوم بزيارة عمل إلى الخارج، كان الحريري يقول للسنيورة في طريق العودة "الله يسترنا عندما نرجع إلى بيروت".

ثم كان تهديد بشار الأسد الشهير له في صيف 2004 بأنه "سيكسر لبنان على رأسك إذا رفض التمديد للحود". وعلى الرغم من إصرار هيئة الادعاء والقضاة وإلحاحهم، إلا أن السنيورة رفض تسمية أركان النظام الأمني السوري واللبناني بالاسم (الجميع يعرفونهم)، ولا حتى أسماء الضباط الكبار الذين كانوا ممسكين تباعاً بالوضع في لبنان.

5231ACF6-F862-4372-9158-B1655EE52A60
سعد كيوان

صحافي وكاتب لبناني، عمل في عدة صحف لبنانية وعربية وأجنبية.