السعودية والمسؤولية التاريخية

24 يوليو 2015

السعودية تشهد استدارة سياسية منذ تولي الملك سلمان الحكم

+ الخط -
أحببنا أم كرهنا، اتفقنا مع بعض، أو كل، سياسات المملكة العربية السعودية، أم اختلفنا معها، فإن قرص الحقيقة لا يحجبه غربال، وملخصه أن السعودية أضحت قاطرة في سياق عربي متردٍّ ومترهل، وهي إن لم تدرك ذلك، أو إن لم تعطه حقه، فإن تردينا سيزداد غوراً، وجراحنا ستزداد فتقاً. 
نعم، اختلفنا مع السعودية، سابقاً، في تعاطيها مع الثورات العربية، واختلفنا معها في دعم الانقلاب في مصر، أو التصعيد مع قطر وتركيا.. إلخ، غير أن ذلك لم ينف يوماً أن السعودية حجر رحى في الوضع العربي وتوازناته واختلالاته، بمعنى أن لا تحسن عربياً يُرتجى من دون مساهمة السعودية، فثقلا المملكة، الديني والاقتصادي، لا يمكن تجاهلهما. نقاط الاختلاف مع السياسات السعودية، الماضية منها والحاضرة، لا ينبغي أن تعمينا عن حقيقة مركزية السعودية، عربياً وإقليمياً. ونحن، إن فعلنا ذلك، نكون كمن يجهض مكامن قوته ذاتياً. ومما يعضد من هذا المنطق اليوم، أن السعودية نفسها تشهد، منذ مطلع العام الجاري، مع تولي الملك سلمان بن عبد العزيز مقاليد الأمور في المملكة، استدارة حقيقية في مواقفها وحساباتها. وسواء كانت هذه الاستدارة ناجمة عن تغير المعطيات الموضوعية، إقليمياً ودولياً، أم جراء نهج حكم مختلف، فالأساس هو ذاته: السياسات السعودية تتغير، وبالتالي، نصبح مطالبين، كقوى مؤمنة بالتغيير وطامحة باستقلال الإرادة العربية، أن ندعم أي تغيير إيجابي في الخطاب والسلوك السعوديين، ولو كان على قاعدة التحالف على أرضية المواقف.

دخلت المنطقة العربية مرحلة مفصلية حساسة في تاريخها، ولم تعد كثير من مقاربات الماضي، الأمنية والاستراتيجية، ذات جدوى الآن. أثبت منطق الرهان على "الحليف" الأميركي ومظلته الحمائية عقمه اليوم، فأميركا لا يعنيها إلا مصالحها في المنطقة، وثابتها الأمني المركزي الوحيد فيها إسرائيل. تاجرت الولايات المتحدة، عقوداً، على العرب بالتهديد الإيراني، وهي الآن تفسح المجال واسعاً لإيران للتمدد في فضاء المنطقة، عبر الاتفاق النووي الأخير معها. ولو أن الاتفاق اقتصر على البعد النووي، لكنا فهمنا الأمر، لكن التصريحات الأميركية واضحة، ولا تبقي مجالا للشك بأن المطلوب هو إعادة تأهيل إيران في المنطقة، على حساب "الحلفاء" العرب سابقاً. طبعاً يتم ذلك وإيران منهمكة في سفك الدم العربي في العراق وسورية واليمن، وتدمير المنطقة واستنزاف مواردها، من دون أن أي رد أميركي ذي معنى. وفي حين تلتزم أميركا بأمن إسرائيل المطلق ضد أي تهديد وجودي لها، فإننا نجد أن إدارة أوباما رفضت أن تعطي حلفاءها من الخليجيين العرب في قمة "كامب ديفيد"، في مايو/أيار الماضي، تعهداً حاسماً، لا لبس فيه، بالدفاع عنهم في حال وجود تهديد أو عدوان خارجي.
كان "الغزل" الأميركي مع إيران أحد أسباب الصدمة التي أطلقت أجهزة الإنذار في الرياض، ودفعها إلى إعادة النظر في سياساتها. فعقود من الارتهان الأمني والاستراتيجي للولايات المتحدة أثبت فشله، وترك السعودية و"حلفاء" عرباً آخرين مكشوفين استراتيجياً. حدث هذا في وقت استطاعت فيه إيران أن تطور ذاتها، وتعزز قدراتها ذاتياً، وعبر حلفاء آخرين، حتى حين شدد الغرب العزلة المفروضة عليها. أيضاً، أثبت "استثمار" المملكة في الانقلاب في مصر أنه لم يكن مجدياً ورابحاً، فها هو نظام السيسي، اليوم، يعض، عملياً، اليد التي امتدت إليه، فتراه يناور على كل المحاور، مع السعودية والغرب وإسرائيل وإيران ووكلائها في سورية والعراق واليمن. بل إن "حلفاء" خليجيين، وبتناغم واضح مع نظام السيسي، تراهم اليوم يصعّدون من حدة انتقاداتهم المبطنة للمملكة، بسبب تقاربها مع قطر وتركيا، وقيادتها جهود التصدي للعدوان الحوثي في اليمن، وبدئها انفتاحاً، من جديد، على بعض فروع الإخوان المسلمين، وتحديداً في اليمن وتونس والأردن، وحركة حماس، وإن كان يبدو، إلى الآن، أن المملكة لا تلقي كثير بال لهذه الانتقادات ومحاولات الابتزاز.
قد يكون ثمة إدراك لدى صانع القرار السعودي، اليوم، أن جهود إجهاض الثورات العربية تسببت بفوضى مدمرة في المنطقة، وخلقت فراغاً سمح لإيران والتيارات المتطرفة بالتمدد فيه، في وقت كانت فيه الولايات المتحدة تتخفف فيه من مسؤولياتها في المنطقة، وتسعى إلى عقد صفقات مع إيران لتأمين الأوضاع فيها. ومن هنا، فإن التقارب مع قطر وتركيا، والابتعاد نسبياً، عن محور التوتير العربي، وتخفيف حدة الاحتقان، غير المبرر مع "الإخوان المسلمين"، كلها أمور، ربما تجيء، في سياق مواءمات سعودية جديدة للتصدي للمغامرات الإيرانية الطائشة في المنطقة، وتعبئة للفراغ الذي تركه "الحليف" الأميركي غير الموثوق، عامداً.
تعاني المنطقة العربية فراغاً قيادياً ومشروعاتياً قاتلين، ونحن، شئنا أم أبينا، أمام برنامج إسرائيلي صهيوني يريد تفتيت المنطقة وتدميرها أكثر فأكثر. أيضاً، نحن أمام برنامج إيراني، يوظف التشيع، منفلت من عقاله، ويريد التمدد على حسابنا، وعبر الخوض في دمائنا، ومن لم تصل إليه رسالة مرشد الثورة الإيرانية، علي خامنئي، قبل أيام، وقال فيها "لن نكف مطلقاً عن دعم أصدقائنا في المنطقة وشعوب فلسطين واليمن وسورية والعراق والبحرين ولبنان"، فإنه أصم أعمى. طبعاً، لا تنخدع هنا بزخرف الحديث عن فلسطين، فهو من باب محاولة تطهير المدنس في السياسة الخارجية الإيرانية.

على أي حال، بين ذَيْنِكَ المشروعين المعاديين، تغرق المنطقة العربية في حروب أهلية وصراعات داخلية، تذكي نارها أنظمة جور قمعية متخلفة، وقد آن الأوان لارتقاء السعودية إلى مسؤولياتها التاريخية، ببناء "كتلة سنية" عربية متصالحة مع ذاتها ومكوناتها كلها، ومتحالفة مع تركيا، لفرض نوع من التوازن في المنطقة، قبل أن يجنح مركبها أكثر فأكثر، وتغرق في حضيض فوضى ليس له قاع. بالمناسبة، تدرك إيران ووكلاؤها حجم الدور الذي يمكن أن تلعبه المملكة في التصدي لمغامراتهم. وفي هذا السياق، تأتي تصريحات أحد بيادق إيران في العراق، نوري المالكي، الذي طالب بوضع السعودية "تحت الوصاية الدولية"، واصفاً إياها بأنها "منطلق الإرهاب وجذر التطرف والتكفير". إذن، هم يدركون حجم السعودية وإمكانياتها وثقلها، فهل تدرك السعودية نفسها ذلك؟ هذا ما نرجوه، ونرى بعض إرهاصاته التي نتمنى أن تستمر وتتطور.