13 نوفمبر 2024
السر في كعك القدس
كان يبدي، في كل صباح، تأففاً من وراء القلب لمعلمته، بسبب حضوره المبكر إلى المدرسة؛ لكي يلحق بالحصة الأولى في صفه الثانوي الأخير، وكانت معلمته تعرف الحقيقة، وتحب تأففه المتجدد. وفي الصباح الأخير، كان يستيقظ باكراَ، على غير العادة، فيجهز نفسه، ويقضم بضع لقيمات من كعك القدس الذي درج على تناوله عند إفطاره، ويغادر البيت إلى المسجد الأقصى.
تذكّر، وهو يركض نحو رفاقه، كيف كانت أمه تخبره أن كعك القدس يمنح من يتناوله القوة والطاقة، كما يفعل السبانخ مع "بوباي" في أفلام الرسوم المتحركة، وحيث يتغلب بعد تناوله على الأشرار، فظل يسمع كلام أمه التي لا تكذب، فبضع لقيمات من كعك القدس سوف تجعله ينتصر على من يحولون بين أهل مدينته والمسجد الأقصى، حيث يجتمعون ويصلون.
سمع، وهو يقطع الطريق الملغمة بالحواجز الأسمنتية والجنود، أنين حجارتها العتيقة المقدسة، وهي تشكو، بصمت ومن بعيد. كان نُواح صخرتها مكتومًا أبيًا ذا كبرياء، يستند نورها إلى ظل الصليب المجاور لها، وكأنه يخفّف من وجعها باستنادتها تلك، فأسرع الخُطى مصطحباً بين جنبات قلبه غضبه المكبوت، وحرّك لسانه بغضب، فتعثّر طرف لسانه الجاف بحبة سمسم، كانت منثورة فوق كعكة القدس التي "نتشها" سريعاً قبل أن يخرج من البيت، تاركاً دعوات أمه وسؤالها الذي تردّد في فراغ البيت: "يمّا شو بدك أطبخلك على الغدا اليوم"؟ وكادت ابتسامة ترتسم على محياه، حين كان شريط حياته القصير يمر سريعاً أمام عينيه؛ أن الجدات العزيزات تحدثن في سرّيةٍ بالغةٍ عن حبات السمسم المنثورة فوق كعك القدس، بأنها تشفي مرض من يبتلعها إن التقطها عن أرضية المسجد الأقصى، وما فتئت أمه تفعل ذلك، كلما ذهبت إلى هناك للصلاة.
حثّ الخطى، وهو يعرف أن أمه لن تتمكّن من الوصول إلى المسجد هذا اليوم بالذات، وصلى بين المصلين في العراء، وتصدّى لغطرسة المحتل، فعاد إلى أمه محمولاً على الأعناق، لتحظى بنظرة سريعة على جثمانه قبل أن يوارى الثرى.
ربما كان بودّه أن يخبرها أنه كان يصدّق كل ما تخبره به حتى آخر رمق، وبأنه لم يشأ أن يخبرها أن ما اعتقدته عن البحّار "بوباي" والسبانخ كان خاطئاً، وأن البقدونس يفوقه في كمية الحديد المفيدة، وأن السمسم فوق كعكاتها الساخنة يحتوي على نسبة كبيرة من الكالسيوم. ولكن الآن رحل محمد شرف، ولم يعد هناك جدوى لمهاترات الدراسات والنظريات، ولكنه بقي عند وعده الأخير؛ أنها سترتّب له غرفته الغارقة في فوضاه المحبّبة لآخر مرة، حين غمز لها بعينه وهو يتوارى بين الأزقة.
لامه كثيرون لأنه يقصّ شعره هذه القصة الحديثة التي نهى عنها خطباء المساجد، وقرّر الأكثرية منهم أن شباب القدس في ضياع، وأن انسجامهم مع الحداثة أنساهم قضية القدس الأولى، وغفل هؤلاء أن هناك سراً كبيراً يوجّه بوصلة الشباب المقدسي حين تنحرف قليلاً، فـ "كعك القدس" الذي عرف في العام 1605، وما زال يعجن بماء القدس ويخبز بنار ثورتها، ويرشّ فوقه السمسم، وتكبر أسطورته مع الزمن، فيتحدّث المقدسيون كيف يكتشف الناس طعمه المميز، وهو لا يغلف، ومهما حاولت أي مدينة فلسطينية أخرى أن تقلده.
لهذا الكعك خصوصيته، وإن كان بعضهم يردّد أن ماء زمزم يفقد مزاياه حين ينقل من مكانه، ويردّد آخرون أن كعك القدس يفقد طعمه ولذته حين يؤكل خارج أسوار المدينة، فحرصت الأمهات عليه في الصباح مع زيت الزيتون والزعتر، وأصبح وما زال تعويذةً صباحية لأحبتهن الصغار الذين يتعرّضون للاعتقال من الجنود والمغتصبين والمستعربين المعربدين في الحواري والأزقة، حين ينطلقون عبر دروب المدينة الضيقة التي ضاقت ذرعا بالقيود وبالحياة التي تمر يوماً بعد يوم كيفما اتفق، حتى استفحل الذل، وأصبحت القضية ليست "البوابات الإلكترونية"، بل أكبر من ذلك؛ إنها قضية رفض استمرار الذل.
تذكّر، وهو يركض نحو رفاقه، كيف كانت أمه تخبره أن كعك القدس يمنح من يتناوله القوة والطاقة، كما يفعل السبانخ مع "بوباي" في أفلام الرسوم المتحركة، وحيث يتغلب بعد تناوله على الأشرار، فظل يسمع كلام أمه التي لا تكذب، فبضع لقيمات من كعك القدس سوف تجعله ينتصر على من يحولون بين أهل مدينته والمسجد الأقصى، حيث يجتمعون ويصلون.
سمع، وهو يقطع الطريق الملغمة بالحواجز الأسمنتية والجنود، أنين حجارتها العتيقة المقدسة، وهي تشكو، بصمت ومن بعيد. كان نُواح صخرتها مكتومًا أبيًا ذا كبرياء، يستند نورها إلى ظل الصليب المجاور لها، وكأنه يخفّف من وجعها باستنادتها تلك، فأسرع الخُطى مصطحباً بين جنبات قلبه غضبه المكبوت، وحرّك لسانه بغضب، فتعثّر طرف لسانه الجاف بحبة سمسم، كانت منثورة فوق كعكة القدس التي "نتشها" سريعاً قبل أن يخرج من البيت، تاركاً دعوات أمه وسؤالها الذي تردّد في فراغ البيت: "يمّا شو بدك أطبخلك على الغدا اليوم"؟ وكادت ابتسامة ترتسم على محياه، حين كان شريط حياته القصير يمر سريعاً أمام عينيه؛ أن الجدات العزيزات تحدثن في سرّيةٍ بالغةٍ عن حبات السمسم المنثورة فوق كعك القدس، بأنها تشفي مرض من يبتلعها إن التقطها عن أرضية المسجد الأقصى، وما فتئت أمه تفعل ذلك، كلما ذهبت إلى هناك للصلاة.
حثّ الخطى، وهو يعرف أن أمه لن تتمكّن من الوصول إلى المسجد هذا اليوم بالذات، وصلى بين المصلين في العراء، وتصدّى لغطرسة المحتل، فعاد إلى أمه محمولاً على الأعناق، لتحظى بنظرة سريعة على جثمانه قبل أن يوارى الثرى.
ربما كان بودّه أن يخبرها أنه كان يصدّق كل ما تخبره به حتى آخر رمق، وبأنه لم يشأ أن يخبرها أن ما اعتقدته عن البحّار "بوباي" والسبانخ كان خاطئاً، وأن البقدونس يفوقه في كمية الحديد المفيدة، وأن السمسم فوق كعكاتها الساخنة يحتوي على نسبة كبيرة من الكالسيوم. ولكن الآن رحل محمد شرف، ولم يعد هناك جدوى لمهاترات الدراسات والنظريات، ولكنه بقي عند وعده الأخير؛ أنها سترتّب له غرفته الغارقة في فوضاه المحبّبة لآخر مرة، حين غمز لها بعينه وهو يتوارى بين الأزقة.
لامه كثيرون لأنه يقصّ شعره هذه القصة الحديثة التي نهى عنها خطباء المساجد، وقرّر الأكثرية منهم أن شباب القدس في ضياع، وأن انسجامهم مع الحداثة أنساهم قضية القدس الأولى، وغفل هؤلاء أن هناك سراً كبيراً يوجّه بوصلة الشباب المقدسي حين تنحرف قليلاً، فـ "كعك القدس" الذي عرف في العام 1605، وما زال يعجن بماء القدس ويخبز بنار ثورتها، ويرشّ فوقه السمسم، وتكبر أسطورته مع الزمن، فيتحدّث المقدسيون كيف يكتشف الناس طعمه المميز، وهو لا يغلف، ومهما حاولت أي مدينة فلسطينية أخرى أن تقلده.
لهذا الكعك خصوصيته، وإن كان بعضهم يردّد أن ماء زمزم يفقد مزاياه حين ينقل من مكانه، ويردّد آخرون أن كعك القدس يفقد طعمه ولذته حين يؤكل خارج أسوار المدينة، فحرصت الأمهات عليه في الصباح مع زيت الزيتون والزعتر، وأصبح وما زال تعويذةً صباحية لأحبتهن الصغار الذين يتعرّضون للاعتقال من الجنود والمغتصبين والمستعربين المعربدين في الحواري والأزقة، حين ينطلقون عبر دروب المدينة الضيقة التي ضاقت ذرعا بالقيود وبالحياة التي تمر يوماً بعد يوم كيفما اتفق، حتى استفحل الذل، وأصبحت القضية ليست "البوابات الإلكترونية"، بل أكبر من ذلك؛ إنها قضية رفض استمرار الذل.