الرموز الوطنية الفلسطينية

18 أكتوبر 2019

(نبيل عناني)

+ الخط -
تشكّلت الوطنية الفلسطينية الحديثة من خسارة الفلسطينيين وطنهم، وتحطيم مجتمعهم وتشردهم على عدة أوطان، بما فيها وطنهم الأصلي، وقد تشاركت تجمعات الفلسطينيين الذين بقوا داخل وطنهم، والذين ذاقوا مرارات اللجوء في صناعة هذه الهوية، فالوطنية الفلسطينية الحديثة تكونت في مواجهة إلغاء وإخفاء شعب وآثاره في بلده، وهو جوهر المشروع الصهيوني الذي لم يكتفِ باحتلال الأرض، والسيطرة عليها، وطرد سكانها فحسب، بل يذهب إلى أبعد من ذلك، يريد احتلال التاريخ، من خلال روايةٍ أخرى مختلقة، ومسح آثار شعبٍ بتغيير أسماء الأماكن، على اعتبار استخدام أسماء جديدة ينفي عن الأرض صفتها الأصلية، ويعطيها الصفة التي يريدها الاحتلال، بوصفه أن الأرض تنتمي إلى المحتل، ليس بفعل احتلاله، بل بفعل تاريخٍ طويلٍ مختلقٍ وكاذب، يعود إلى ثلاثة آلاف سنة خلت.
أراد المشروع الصهيوني إخفاء الشعب الفلسطيني عن الخريطة والتاريخ، وامتلاك ما امتلكه هذا الشعب، ببناء دولته على أنقاضه. وكان الطرد السياسة الإسرائيلية التي اعتمدت في إلغاء الوجود الفلسطيني، وإحلال الوجود اليهودي مكانه، بهدف بناء الدولة اليهودية، على أنقاض شعبٍ آخر، من دون الاعتراف بوجود هذا الشعب أصلاً، فغياب الشعب الفلسطيني في الرواية الإسرائيلية للصراع يعمل على إلغاء كل جريمة صهيونية، ومن ثم إسرائيلية، ارتكبت بحق الشعب الفلسطيني، فكيف لإسرائيل أن ترتكب جريمة بحق شعب غير موجود أصلاً؟!
طُرد ثمانمائة ألف فلسطيني خارج بيوتهم في العام 1948، ولم يكن الاقتلاع كاملاً، فقد بقي في 
الجغرافيا التي أعلنت عليها إسرائيل دولتها حوالي مائة ألف فلسطيني، صمدوا في وجه الاقتلاع، بقوا راسخين في أرضهم. تسبّبت هذه الأقلية التي بقيت في فلسطين، وتتسبب، بقلق دائم للمشروع الصهيوني، ليسوا بوصفهم الشاهد الحي على الجريمة الصهيونية داخل البلاد ونقد روايتها التاريخية لما جرى في فلسطين فحسب، بل وبوصفهم أصحاب الأرض الشرعيين في مواجهة رواية إسرائيلية مختلقة أيضاً.
من واقع تحطم المجتمع الفلسطيني وتدميره، بفعل العدوانية الصهيونية وطبيعة مشروعها الاقتلاعي الإجلائي، كان على الفلسطينيين إعادة اختراع فلسطين في كل أماكن وجودهم، كل بطريقته، في المنافي أعادوا اختراع فلسطين عبر حكايات الجدّات ومفاتيح البيوت وصكوك الملكية. وعاد الوطن المفقود إلى الظهور متخيلاً عبر روابط وطنية متجاوزة لواقع الشتات. في الوطن، لم يكونوا بحاجة إلى المتخيّل، كان يكفي أن يعلنوا عن وجودهم على أرضهم، ليعود إلى المكان انتماؤه الفلسطيني، على الرغم من كل المحاولات الإسرائيلية لطمس الأسماء والمعالم، وتحويلها إلى العبرية. وكان هذا الإعلان مدوّيا في "يوم الأرض"، 30 مارس/ آذار 1976، والذي أخذ دلالته الوطنية، بوصفه الرد على الإنكار المتواصل للوجود الفلسطيني. لذلك، شكل "يوم الأرض" واحداً من الرموز الوطنية الفلسطينية الحديثة، فهو يومٌ لا يخص الفلسطينيين داخل إسرائيل، بما أنه كان يوماً معمّداً بدمهم، يعلن عن انتماء فلسطين إلى أصحابها، ورفضهم استمرار مصادرة أملاكهم، فهو اليوم الذي أعلن هوية المكان، وأعلن من جديد فلسطينية فلسطين، بعد سنوات من التخويف والأسرلة.
بمثل رموز كهذه، أعاد الفلسطينيون بناء وطنهم المتخيّل، فكما أعلن فلسطينيو الداخل انتماءهم من خلال يوم الأرض (وغيره)، أعلنت التجمعات الأخرى انتماءها من خلال مجموعة واسعة من المواجهات والمبادرات لإعادة فلسطين إلى الخريطة السياسية أولاً، مدخلاً لإعادتها إلى الخريطة الجغرافية. ففي الأماكن الأخرى، تشظّى الشعب الفلسطيني، بعد كارثة 1948 الاقتلاعية، على أربع جهات الأرض، فكان الغياب عن الوطن الذي دُمر أمام أعين الغائبين، ليبنى مكانه "وطن" لآخرين قادمين من المجهول.
كان على الفلسطيني أن يجترح معجزة العيش في الزمن الواقعي، لأنه يعيش يومياً بما يذكّره بعدم انتمائه إلى المكان، وهو أحد الأسباب التي جعلته غير قادرٍ على الانسجام مع المحيط الجديد، 
بحيث تبدو كل الأشياء ضبابيةً في عينيه. وعمل الضغط الخارجي من الدول المضيفة بعدم الرغبة بوجودهم عاملا إضافيا لإنتاج "الغيتو" الفلسطيني "المخيم" في الخارج، وسياسات الإلغاء الإسرائيلية على إنتاج "الغيتو" في الداخل، من خلال إهمال التجمعات العربية إسرائيل.
يشرح إدوارد سعيد في كتابه "ما بعد السماء الأخيرة: حيوات الفلسطينيين" الحالة الفلسطينية بوصفها نموذجا مثاليا للتشظي، تعطي صاحبه نظرة خاصة إلى الحياة والأشياء، تعطي استمرارية وانقطاعاً من نوع خاص، فهو يؤكد اختلاف مشاعر الفلسطينيين ووحدتها في آن "فالحال أن مصيرنا قد كان من الاختلاف والتبعثر بحيث يستحيل مثل هذا التطابق. مع ذلك، فليس من شك في أننا نشكل جماعة/ جالية بحق، وإن تكن جماعة/ جالية مبنية على المعاناة والنفي". ويتساءل عن معنى الوجود الفلسطيني في ظل حالة الشتات التي يعانيها الشعب الفلسطيني: "هل نحن موجودون؟ وما دليلنا على ذلك؟ كلما ابتعدنا عن فلسطين ماضينا، تقلقل مركزنا واختل وجودنا وتقطع حضورنا. متى صرنا شعباً؟ حتى كففنا أن نكون كذلك؟ أم هل نحن في طريقنا إلى أن نصير كذلك؟". هكذا تغيّرت طبيعة الجماعة القومية الفلسطينية بشكل متزايد مع تغير المكان "ببطء راحت حيواتنا، شأنها في ذلك شأن فلسطين نفسها، تنحلّ إلى شيء آخر، فإذا بنا نعجز عن الإمساك بالمركز وقتاً طويلاً". هذا العجز عن الإمساك بالمركز ما كان ليكون، لولا الحياة الثابتة والمستقرّة والمتجانسة التي كان يعيشها الفلسطينيون في وطنهم قبل الاقتلاع، وكان هذا الاستقرار أساس المقارنة مع الحالة اللاحقة من الاقتلاع والشتات والمنفى، فبالاقتلاع اختفى "ثبات الجغرافيا"، و"تواصل الأرض" اختفاءً تاماً من حياتي وحياة الفلسطينيين. لذلك نحن نستعيد ونرقِّع الشيء بالشيء".
أصبح الفلسطينيون المدفوع بهم عنوة خارج أرضهم، والمكنوسون إلى الظلمة في وطنهم، وخارج الزمن، "غائبين" أجساما حدودية بين الغياب والحضور، الأرض الأصلية والمنفى، الذاكرة ونفي الذاكرة، الزمن وإلغاءه. تلقّى الفلسطينيون هذا المجال المحرّم دفعة واحدة كأرض مبتلعة، لا كأرض محتلة. بسبب من تهجر شعبها، عيش ضياع فلسطين كغياب فيزيائي، لا نتيجة غزو. أصبح هذا المجال، في نظر الفلسطينيين، غير مرئي، وفلسطين مجالاً غارقاً مغطّى، جوفياً، يتعيّن إعادة إظهاره إلى النور. كان هذا الشعور من القوة ومن العمق، بحيث شمل حتى الأقلية منهم التي بقيت في فلسطين. ومن هذا الموقع، وبقوة الخلق الوطني، أبدع من بقي في فلسطين واحدا من أهم الرموز الفلسطينية الوطنية الحديثة، يوم الأرض.
D06B868A-D0B2-40CB-9555-7F076DA770A5
سمير الزبن

كاتب وروائي فلسطيني، من كتبه "النظام العربي ـ ماضيه، حاضره، مستقبله"، "تحولات التجربة الفلسطينية"، "واقع الفلسطينيين في سورية" ، "قبر بلا جثة" (رواية). نشر مقالات ودراسات عديدة في الدوريات والصحف العربية.