23 مايو 2017
الذات العربية... المركزية لمن؟
نقف اليوم أمام مشهدٍ سياسيٍ مربك، إلى درجة أن الصورة الواحدة تقرأ بأكثر من طريقة، وتفسر بأكثر من تفسير، ويحدث هذا كله، وأكثر، ليس فقط بسبب طبيعة الصراع السياسي ذي الصبغة المذهبية، أو تعدّد القراءات النابعة من الاختلاف الأيديولوجي، ولكن لأن المركز يحل مكان التخوم، والهامشي مكان المركزي، لدى بعض المحللين والمتابعين.
عند تقييم الانتفاضات العربية، يلزمنا الوقوف برهة، عند طبيعة الحركات التي نزلت للتظاهر وتقسيماتها، والتأكد من الخلفيات الاجتماعية والسياسية التي انطلقت منها الفئات المشاركة، وتفحّص الفئة التي نجحت في الهيمنة السياسية على الحراك؛ لأن "تنميط" الاحتجاج يعطي صورةً مشوهةً ومشوشةً عن المشهد، وهذا الإرباك يمارس عمداً في أحيانٍ كثيرة؛ بغرض رفع قيمة حركة سياسية، أو فصيل مسلح على حساب بقية المشاركين في الانتفاضة، وتظهيرها وكأنها الحركة النضالية الوحيدة المناهضة للاستبداد والظلم الاجتماعي، وحصر تمثيل جميع الفئات الاجتماعية والسياسية الصغيرة من خلالها، والذي ليس بالضرورة أن يكون دقيقاً، أو يحظى بتوافق "شعوب الحراك"، كما تسميها الباحثة كارول كرباج، وهي التي درست الحراك المدني اللبناني أخيرا. واكتشفت، من ضمن ما اكتشفت، أن قيادات حملة "طلعة ريحتكم" هيمنت على الخطاب السياسي للحراك، واستأثرت بالتغطية الإعلامية، في حين حُرم الآخرون من التمثّل، بالتالي شعرت الحركات الأخرى بالتهميش، فانسحبت من الميدان.
هذه الاستراتيجية، أقصد استراتيجية الاستئثار والهيمنة على المشهد السياسي لجماعة سياسية من ضمن جماعات، قد تحدث بعفوية، وقد تطوي بين ثناياها أجندة الممولين والمستفيدين الكبار الذين يملكون أحقية توزيع الأدوار والأحجام. في حين أن الواقع على الأرض مختلف باختلاف الدوافع التي دفعت فئات اجتماعية متنوعة من النزول للتظاهر في وقت ومكان واحد. أسباب كثيرة كامنة تقف خلف تنوع الذوات المذرّرة في الميادين، والتي تظهر وهلة، وكأنها كتلة صماء، نتيجة الخطاب الفضفاض، والأيديولوجيا "السائلة" في موسم ازدراء الأدلجة، وغياب الشخصيات الكاريزمية القادرة على توحيد الجماهير خلف مشروع واضح. كل هذه الأمور مجتمعة، أو منفردة، لم تسعفنا في نشوة الربيع العربي من التعرف على "شعوب الحراك"، وفحصهم فحصاً دقيقاً، لمعرفة توجهاتها السياسية. لهذا، على الأرجح، فشلنا في معرفة ما هو مُلّح، وما هو هامشي.
ضمن السياق نفسه، وتدعيماً للفكرة الرئيسية، المركز في الوطن العربي هو للسياسي، وأحياناً كثيرة، يكون السياسي ممثلاً لمصالح القوى الكبرى في المنطقة، لذا تجده يحتكر الإعلام والدعم المادي، وتسلط عليه الأضواء دون غيره، ويتم طمس البقية، كما حصل ويحصل، من تضخيم لحجم جماعات الإسلام السياسي، السنية والشيعية، في المشرق العربي. وقد نظّم مركز الملك فيصل للأبحاث والدراسات الإسلامية، أخيرا، في الرياض، ندوة عن "معركة الموصل وما بعدها"، شارك فيها الدكتور فالح عبد الجبار وبيتر هارلينغ، وتناول كل مشاركٍ ما يعتقد أنه العامل الأساسي المؤثر على الشعب العراقي. ويلفت الانتباه أن الأول اتجه مباشرة نحو التحليل السياسي، ففصّل في دور اللاعبين الكبار من خارج العراق، كإيران وأميركا وتركيا، ومشروع كل دولة وحلفائها، وعناصر قوة كل مشروع، بالمقارنة مع حجم اللاعبين المحليين وتأثيرهم، وهي قراءةٌ تضع السياسة موضع المركز، وتحيل الاجتماعي والثقافي والمذهبي والاقتصادي للهامش. في حين اعتمد هارلينغ قراءة مغايرة، تناول فيها المظاهرات التي اجتاحت الجنوب العراقي، وكانت مناهضةً للقوى السياسية الرئيسية الحاكمة، المدعومة من المرجعية الشيعية، والتي وفرت الغطاء المعنوي للحكومات السابقة. صبّ بيتر اهتمامه على جيل الشباب المشارك في الحراك، وأشار إلى نقطة مهمة، إن المشاركين في المظاهرات ليسوا من المهتمين بمعركة الموصل، ولا بماضي حزب البعث وحكمه، ولا بالانقسامات الطائفية التي فرضتها مرحلة ما بعد الاحتلال، بل كان جل تركيزهم على الخدمات العامة والفساد، ومستقبلهم التعليمي والوظيفي، في ظل "موت الأمل" بالحكومات الفاسدة المتعاقبة على حكم بغداد، وتتستر بعباءة المرجعيات الشيعية.
قد يكون هارلينغ على حق، لجهة اهتمامات الجيل الجديد داخل العراق، لكن ذلك لا يعني، بالضرورة، أنهم مؤثرون سياسياً، أو أن المركز انتقل من السياسي إلى الاقتصادي والثقافي، بل إن ما سيشكل ملامح العراق ما بعد الموصل هي القوى الرئيسية المساهمة في الصراع المسلح، وقد يكون تأثيرها عقوداً أو أكثر. من هنا، نجد قوى، كتركيا وإيران، تدفع جنودها إلى ساحات القتال. الآن، بغض النظر عما يحصل في بغداد أو البصرة، أو حجم القوى الاجتماعية المشاركة في المظاهرات، ففي نهاية المطاف، ولأسباب كثيرة، هي حركات هامشية غير قادرة على مواجهة قوة المركز. أليس هذا ما انتهى إليه الحراك اللبناني؟
أخيراً، فلنعترف بأن السياسة هي المركز الموجه للذوات العربية، وأن الحاجات الاقتصادية والاجتماعية تقع خارج دائرة التأثير المباشر، وأن القوى القادرة على تشكيل قواعد اللعبة موجودة خارج حدود الدولة الوطنية أصلاً، وأن التظاهرات الشبابية عاطفية وجميلة، لكنها هامشية.
عند تقييم الانتفاضات العربية، يلزمنا الوقوف برهة، عند طبيعة الحركات التي نزلت للتظاهر وتقسيماتها، والتأكد من الخلفيات الاجتماعية والسياسية التي انطلقت منها الفئات المشاركة، وتفحّص الفئة التي نجحت في الهيمنة السياسية على الحراك؛ لأن "تنميط" الاحتجاج يعطي صورةً مشوهةً ومشوشةً عن المشهد، وهذا الإرباك يمارس عمداً في أحيانٍ كثيرة؛ بغرض رفع قيمة حركة سياسية، أو فصيل مسلح على حساب بقية المشاركين في الانتفاضة، وتظهيرها وكأنها الحركة النضالية الوحيدة المناهضة للاستبداد والظلم الاجتماعي، وحصر تمثيل جميع الفئات الاجتماعية والسياسية الصغيرة من خلالها، والذي ليس بالضرورة أن يكون دقيقاً، أو يحظى بتوافق "شعوب الحراك"، كما تسميها الباحثة كارول كرباج، وهي التي درست الحراك المدني اللبناني أخيرا. واكتشفت، من ضمن ما اكتشفت، أن قيادات حملة "طلعة ريحتكم" هيمنت على الخطاب السياسي للحراك، واستأثرت بالتغطية الإعلامية، في حين حُرم الآخرون من التمثّل، بالتالي شعرت الحركات الأخرى بالتهميش، فانسحبت من الميدان.
هذه الاستراتيجية، أقصد استراتيجية الاستئثار والهيمنة على المشهد السياسي لجماعة سياسية من ضمن جماعات، قد تحدث بعفوية، وقد تطوي بين ثناياها أجندة الممولين والمستفيدين الكبار الذين يملكون أحقية توزيع الأدوار والأحجام. في حين أن الواقع على الأرض مختلف باختلاف الدوافع التي دفعت فئات اجتماعية متنوعة من النزول للتظاهر في وقت ومكان واحد. أسباب كثيرة كامنة تقف خلف تنوع الذوات المذرّرة في الميادين، والتي تظهر وهلة، وكأنها كتلة صماء، نتيجة الخطاب الفضفاض، والأيديولوجيا "السائلة" في موسم ازدراء الأدلجة، وغياب الشخصيات الكاريزمية القادرة على توحيد الجماهير خلف مشروع واضح. كل هذه الأمور مجتمعة، أو منفردة، لم تسعفنا في نشوة الربيع العربي من التعرف على "شعوب الحراك"، وفحصهم فحصاً دقيقاً، لمعرفة توجهاتها السياسية. لهذا، على الأرجح، فشلنا في معرفة ما هو مُلّح، وما هو هامشي.
ضمن السياق نفسه، وتدعيماً للفكرة الرئيسية، المركز في الوطن العربي هو للسياسي، وأحياناً كثيرة، يكون السياسي ممثلاً لمصالح القوى الكبرى في المنطقة، لذا تجده يحتكر الإعلام والدعم المادي، وتسلط عليه الأضواء دون غيره، ويتم طمس البقية، كما حصل ويحصل، من تضخيم لحجم جماعات الإسلام السياسي، السنية والشيعية، في المشرق العربي. وقد نظّم مركز الملك فيصل للأبحاث والدراسات الإسلامية، أخيرا، في الرياض، ندوة عن "معركة الموصل وما بعدها"، شارك فيها الدكتور فالح عبد الجبار وبيتر هارلينغ، وتناول كل مشاركٍ ما يعتقد أنه العامل الأساسي المؤثر على الشعب العراقي. ويلفت الانتباه أن الأول اتجه مباشرة نحو التحليل السياسي، ففصّل في دور اللاعبين الكبار من خارج العراق، كإيران وأميركا وتركيا، ومشروع كل دولة وحلفائها، وعناصر قوة كل مشروع، بالمقارنة مع حجم اللاعبين المحليين وتأثيرهم، وهي قراءةٌ تضع السياسة موضع المركز، وتحيل الاجتماعي والثقافي والمذهبي والاقتصادي للهامش. في حين اعتمد هارلينغ قراءة مغايرة، تناول فيها المظاهرات التي اجتاحت الجنوب العراقي، وكانت مناهضةً للقوى السياسية الرئيسية الحاكمة، المدعومة من المرجعية الشيعية، والتي وفرت الغطاء المعنوي للحكومات السابقة. صبّ بيتر اهتمامه على جيل الشباب المشارك في الحراك، وأشار إلى نقطة مهمة، إن المشاركين في المظاهرات ليسوا من المهتمين بمعركة الموصل، ولا بماضي حزب البعث وحكمه، ولا بالانقسامات الطائفية التي فرضتها مرحلة ما بعد الاحتلال، بل كان جل تركيزهم على الخدمات العامة والفساد، ومستقبلهم التعليمي والوظيفي، في ظل "موت الأمل" بالحكومات الفاسدة المتعاقبة على حكم بغداد، وتتستر بعباءة المرجعيات الشيعية.
قد يكون هارلينغ على حق، لجهة اهتمامات الجيل الجديد داخل العراق، لكن ذلك لا يعني، بالضرورة، أنهم مؤثرون سياسياً، أو أن المركز انتقل من السياسي إلى الاقتصادي والثقافي، بل إن ما سيشكل ملامح العراق ما بعد الموصل هي القوى الرئيسية المساهمة في الصراع المسلح، وقد يكون تأثيرها عقوداً أو أكثر. من هنا، نجد قوى، كتركيا وإيران، تدفع جنودها إلى ساحات القتال. الآن، بغض النظر عما يحصل في بغداد أو البصرة، أو حجم القوى الاجتماعية المشاركة في المظاهرات، ففي نهاية المطاف، ولأسباب كثيرة، هي حركات هامشية غير قادرة على مواجهة قوة المركز. أليس هذا ما انتهى إليه الحراك اللبناني؟
أخيراً، فلنعترف بأن السياسة هي المركز الموجه للذوات العربية، وأن الحاجات الاقتصادية والاجتماعية تقع خارج دائرة التأثير المباشر، وأن القوى القادرة على تشكيل قواعد اللعبة موجودة خارج حدود الدولة الوطنية أصلاً، وأن التظاهرات الشبابية عاطفية وجميلة، لكنها هامشية.