الدولة المريضة

06 ابريل 2016
+ الخط -
تفقد الدولة، كل يوم، جزءاً من هيمنتها، قطعةً من سلطتها، شيئاً من تأثيرها، مساحةً من سطوتها، على المجتمع وعلى الفرد.
ترتخي قبضة الدولة كل ساعةٍ على الاقتصاد والثقافة والإعلام والإنترنت وحركة البشر والرساميل والأفكار والصور والرموز ونظام القيم واتجاهات الرأي… وهذا كله لأن الشركة تتقدّم والسلطة تتراجع، لأن العولمة تزحف والانعزالية تنحسر، لأن الحدود تسقط والمعابر تفتح، لأن الفرد يزداد قوةً والجماعة تزداد ضعفاً.
لو عاش كارل ماركس إلى اليوم لسقط مغشياً عليه، وهو يرى أن الدولة التي تنبأ بنهايتها ودخولها إلى متحف التاريخ في تراجع مستمر، لأسباب مناقضة للنظرية الشيوعية، عكس ما توقعه ماركس، فالدولة تهدم بمعاول الرأسمالية التي أطلقت العنان للسوق، وللشركة وللمبادرة الحرة وللفرد، حتى أصبح شعار المرحلة "دولة أقل وحرية أكثر".
تعرف الدول الذكية في الغرب هذه الحقيقة، وتتجه إلى أن تتصالح مع شعبها وعصرها، وتُحاول أن تملأ الفراغ، وأن تتقن استعمال أدوات السلطة التي مازالت بيدها، والتي لا يستطيع المجتمع أن يأتمن القطاع الخاص عليها (مثل الأمن والجيش والقضاء والدبلوماسية وسلطة التنظيم ومراقبة جودة الخدمات والمنتوجات، وحماية الأطراف الضعيفة في المجتمع، وتنظيم حركة السير على طريق اكتساب الثروة والجاه والتأثير)… أما الدول المتخلفة فتعاند حقائق العصر، وتستعمل ما بقي عندها من قوةٍ تقليديةٍ لفرض سطوتها على المجتمعات والأفراد، فتنتج مزيداً من سخط الناس، ومزيداً من قمع الأفراد، والكثير من السلطوية ومن عوامل عدم الاستقرار.
إلى اليوم، دخلت ثماني دول عربية إلى خانة الدول الفاشلة، حيث انهارت الأنظمة، أو تكاد، وفقدت الدولة حق احتكار العنف المشروع، وصلاحية مراقبة الحدود، وواجب تلبية الحد الأدنى من احتياجات السكان، وهذا هو التعريف الشائع للدول الفاشلة. كانت البداية بالصومال ثم العراق فسورية واليمن وليبيا ولبنان وجنوب السودان ومالي، وفي الطريق إلى إعلان الفشل هناك الجزائر ومصر وموريتانيا ودول أخرى.
كانت تحكم هذه الدول أنظمة سلطوية، وكلها انهارت بعد نهاية الحرب الباردة، وكلها تفتتت في زمن العولمة، وكلها تعيش حروباً أهلية أو تقترب منها... إنها دولٌ عجزت عن تدبير إشكالية تجديد الشرعية، وسؤال التنمية، وامتحان الحرية وحقوق الإنسان، انهارت الدولة في كل هذه البلدان، لأن الشعب لم يتمسك بها، ولم يدافع عنها، ولم ير أن هذه الدول تمثله، أو تلبي حاجاته، أو تقوده إلى المستقبل. لهذا، تخلى عنها، فانهارت عند أول امتحان داخلي أو خارجي.
ليست فقط الأنظمة السلطوية هي التي تنهار في هذه البلدان، بل الدولة كلها تتبدّد، فاسحةً المجال للمليشيات والقبائل والعشائر والتنظيمات الإرهابية لحكم الجغرافيا التي أصبحت خاليةً من أي مشروع وطني، أو رؤيةٍ جامعةٍ أو أيديولوجيا مغرية. مع فشل الدولة، يحضر الاقتصاد الأسود القائم على تهريب البضائع، وغسل الأموال، والاتجار في البشر، والاستثمار في عائدات القرصنة، وخطف الأجانب وتلقي الفدية، والاتجار في السلاح.
قبل أسابيع، كان تنظيم داعش ليبيا يريد أن يقضم قطعةً من الأرض التونسية في بنقردان، لإقامة ولاية جديدة للبغدادي في بلاد الزيتون بواسطة السلاح، وتجنيد خلايا السلفية الجهادية التي انتعشت، مع ارتخاء مفاصل الدولة بعد ثورة الياسمين. كان هذا اختباراً لقوة الدولة التونسية، ومدى قدرتها على مراقبة حدودها، واحتكار استعمال السلاح فوق أرضها، لكن الاختبار الأقوى كان للشعب التونسي ولسكان بنقردان، فيما إذا كانوا مازالوا متمسكين بالدولة التونسية، أم إنهم يئسوا منها بفعل الأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي أحدثتها مشكلات إعادة ترتيب أوضاع البيت الداخلي للنظام التونسي. ستتعرّض لهذا النموذج في الاختبارات دول وشعوب أخرى، عربية وأفريقية في الأشهر والسنوات المقبلة، سواء على يد داعش أو القاعدة أو غيرهما من التنظيمات المسلحة التي باتت جاهزةً لأن تحل محل الدولة الفاشلة، وتتغذى هذه التنظيمات على ضعف الشرعية السياسية في الدولة العربية، وندرة شرعية الإنجاز فيها، ووفرة الأزمات داخلها، وقنوط الناس ويأسهم من الأمل في الغد، والجميع يردد شعار "الطبيعة تخشى الفراغ".
A0A366A1-882C-4079-9BED-8224F52CAE91
توفيق بوعشرين

كاتب وصحفي مغربي، رئيس تحرير جريدة "أخبار اليوم" المغربية.