كالعادة، وكما يحصل بعد كل عملية تضرب الغرب، يتدافع عدد من التنويريين العرب مفجوعين إلى المنابر الإعلامية العربية والأجنبية ليستغفروا الغرب عن فعلة أبنائهم ويتباكوا على الجينات الثقافية البربرية لمجتمعاتهم التي لم تفلح ثلاثة أو أربعة أجيال من التنوير الأوروبي في ترويضها لدى أبناء المهاجرين.
هو بالفعل أمر عجيب أن يغلب الطبع الداعشي على التطبّع التنويري لدى أفراد سمر البشرة ولدوا في الغرب وتشربوا التنوير من مدارسه ومؤسساته منذ نعومة أظافرهم. لتحليل الظاهرة، لا مهرب من وضع النظارات الواقية وإماطة اللثام عن وجوه الوحوش. لنلق، إذاً، نظرة على سيرة الأخوين كواشي ولنر دور صراع الحضارات في المصير الذي آلا إليه.
بحسب جارتهم إيفلين التي أنشأت جمعية لمساندة أطفال الحي، ولد الأخوان ونشآ في غيتو بائس يقع في دائرة باريس التاسعة عشر. الأم عزباء، كانت تعيش مع أولادها الخمسة في الفقر المدقع وتعمل في الدعارة لإعالتهم - على ذمة الجارة. لا أحد يعرف شيئاً عن الأب أو الأبوين. في العاشرة والثانية عشرة من عمرَيهما، يعثران على أمهما منتحرة، وبعدها ينتقلان إلى ميتم تابع للدولة.
بحسب رواية موظفي الميتم، أبوهما كان متوفىً وأمهما سلمتهما إلى الميتم حين كانت مريضة وماتت بعد ذلك بفترة قصيرة (من المرجح أن يكون الموظفون يخلطون بين الأخوين سعيد وشريف كواشي، وأخوين كواشي آخرين تقول إيفلين إن الميتم استلمهما قبل انتحار الأم).
بحسب إيفلين، المؤسسات والخدمات الاجتماعية لم تكن حاضرة في الغيتو إلا شكلياً. هناك مثلاً طفل كان لا ينفك يلجأ إليها مع جروح خطيرة تسببت بها أمه (على غرار حرق مكواة من الدرجة الثالثة)، أخذته إيفلين أربع مرات إلى الشرطة وفي كل مرة لم تكن هذه الأخيرة تفعل سوى إعادة تسليمه إلى جلادته.
كانت شوارع الغيتو مليئة بالأطفال المشردين والمتروكين على غرار الأخوين كواشي، وكانت زمر من المنحرفين المتحرشين بالأطفال تأتي عند المساء بوجه مكشوف بحثاً عن طرائد، كما كانت عصابات المخدرات والسرقة التي تملأ الحي تنوب عن الأهل ومؤسسات الدولة في تنشئة الأطفال. أما عن العناية التي تلقياها في الميتم، فيروي أحد أصدقائهما أن كل الذين عرفهم في الميتم هم الآن إما غارقون في المخدرات وإما في السجن وإما أموات.
لو استبعدنا أن تكون الأم نقلت الفكر السلفي إلى طفليها قبل انتحارها، نستنتج أن الأخوين كواشي هما ابنا الدولة الفرنسية بالمعنى الأكثر جذرية للكلمة، إذ أن هذه الدولة كانت المسؤولة الوحيدة عن تربيتهما وتنشئتهما. بالتالي، لا داعي أن تقض أصولهما البيولوجية مضجع التنويريين العرب.
من المفيد أيضاً لفت نظر هؤلاء إلى أن "المشهد الجهادي" في فرنسا لا يتصدره أبناء المهاجرين. بحسب تقرير الإدارة العامة للأمن الخارجي (DGSE)، فإن 80% من "الجهاديين الفرنسيين" الذين انضموا إلى "داعش" ليس لهم أية علاقة قريبة أو بعيدة بالهجرة؛ أي أنهم ينتمون إلى من يسميهم اليمين المتطرف بـ"الفرنسيين الصفوة".
يبدو ذلك مربكاً حين نتذكر أن حوالى ثلث الفرنسيين لهم جذور مهاجرة، أوروبية وغيرها. يمكن تفسير المفارقة بهوس الإعلام المرئي والمسموع بالإسلام الأصولي وخطره في فرنسا، بما يجعل من هذا الأخير مصدر جذب لكل المضطربين والمهمشين والمنعزلين الباحثين عن الظهور. وفق هذه المعادلة السيكولوجية ـ السوسيولوجية، يصبح من المفهوم أن تكون البيئة الأكثر إسلاموفوبيةً، حيث الفزاعة الإسلامية كلية الحضور، هي كذلك من الأكثر استجابةً لدعوة البغدادي.
أما عن سؤال سبب انتماء منفذي "العمليات الجهادية" الناجحة في فرنسا إلى أبناء المهاجرين المغاربة والأفارقة، فتجيب عليه من غير قصد الصحافة اليمينية في سعيها إلى إثبات أن "الجهاديين" من أبناء المهاجرين المغاربة والأفارقة هم أكثر خطراً من جهاديي أبناء الصفوة.
الجهاديون الأوائل يفرّخون في غيتوهات تكاد تكون الدولة غائبة عنها وفي بيئات اجتماعية وعائلية يصعب رصدهم فيها، أما جهاديو الضيع الفرنسية فيبلّغ أهلهم وجيرانهم عنهم ما إن تظهر لديهم البوادر الأولى للتشدد الديني!
* كاتب لبناني مقيم في فرنسا