الدراما السوريّة: حكايات صمت عن الكلام المباح

15 مارس 2015
مسلسل " فوق السقف" (العربي الجديد)
+ الخط -

اليوم، بعد مرور أربع سنوات على اندلاع المظاهرات الشعبيّة ضد النظام السوري في آذار/مارس 2011، بلغ عدد المسلسلات التي تناولت الحدث ذاته 21 عملاً، بينها ستة أعمال تنتظر عرضها في رمضان 2015. أمام هذا الكم الفائض توضع عدّة علامات استفهام. أي صورة للواقع رسمته تلك المسلسلات، وإلى أي حد بدت تعبر عن نبض الشارع؟

ما مدى خضوع تلك الأعمال أو انفلاتها من تجاذبات الانقسام الحاد الحاصل بين السوريين، وتوزعهم بين معارض للنظام ومؤيد له وحيادي تجاه الطرفين أو معارض لهما..؟

من صاغ الخطاب الدرامي الخاص بهذه المسلسلات، وكيف، ولماذا.. وماذا عن ردود فعل المشاهدة لها؟ وهل استطاعت هذه الأعمال أن تحقق التوازن بين ما يستوجبه الفن من انتظار حتى تأخذ القضية أبعادها، وما يريده الجمهور من دراما تعبر عن آراءهم، وتنطق بوجعهم اليومي وما آلت إليه أحوالهم؟

إذا تجاوزنا الميل غير المباشر لعدد من المسلسلات إلى خطاب النظام، تبقى السمة الغالبة لما أنتج من مسلسلات الحدث السوري الساخن، نزوعها نحو تقديم خطاب درامي جامع، أثبتت ردود فعل المشاهدة تجاهه أنه فشل في أن يجمع أحداً، لكنه على الرغم من ذلك، ظلّ الخطاب الأكثر شيوعاً وتفضيلاً من قبل صناع هذه الدراما، وظلّ حال مسلسلاتهم من حال حوار ورد في مشهد من مسلسل "سنعود بعد قليل" جمع بين نورا (كندة علوش) وراجي (رافي وهبي).

وفيه كانت نورا لا تكفّ عن سؤال راجي: أنت نظام أم معارضة..؟ وكان هو لا يكف عن إجابتها بالابتسام، من دون أن تحصل هي أو نحصل نحن على جواب شاف، كما لو أنّ المسلسل بذلك أراد أن يكسب الجميع وألا يخسر أحداً، مثله في هذا مثل كل المسلسلات التي قاربت الحدث السوري ولم تخبرنا إن كانت تنطق باسم النظام أو المعارضة.

المسلسلات السابقة بمجملها تمسكت بما يمكن أن نسميه مجازاً بـ "خطاب الدولة الدرامي" أي الخطاب الذي سلك سلوك الدولة فأظهر طرفي النزاع في سورية، ولم يغيب أي منهما لصالح خطاب بلون واحد، هو خطابه بالضرورة.


أما مساحة ظهور كل من طرفي النزاع في تلك الأعمال، وسيادة ظهور أحدهما على حساب الثاني، فتلك مسائل بدت رهن طبيعة الجهة المنتجة للعمل بالدرجة الأولى وخطابها السياسي، وثانياً رهن مكان التصوير وما يمليه من حدود للسقف الرقابي المسموح به، وربما بدرجة أقل رهن السياسات الخاصة بشاشات العرض واشتراطات التسويق.

بالأرقام، واحد وعشرون مسلسلاً (راجع الجدول في الشكل 1) هو الحد الأدنى للمسلسلات التي تناولت الحدث الساخن في سورية مع دخول الثورة في سورية عامها الرابع، وقد عرض منها خمسة عشر مسلسلاً حتى الآن. ومن وسط المسلسلات المعروضة أنتج القطاع الدرامي السوري الحكومي (العام) ممثلاً بالمؤسسة العامة للإنتاج الإذاعي والتلفزيوني، سبعة مسلسلات. فيما أنتجت شركات إنتاج خاصة مقربة من النظام أو تعمل تحت سقف رقابته أربعة مسلسلات. وتم تصوير ثلاثة مسلسلات أخرى خارج سورية، من قبل شركات إنتاج سورية، بينها اثنان بشراكة مع فضائيات عربية، إضافة إلى تصوير مسلسل رابع من إنتاج لبناني، وفي الموسم الدرامي الرمضاني المقبل سجل القطاع الدرامي الحكومي العام باسمه مسلسلين، ومثلهما لكل من القطاع الخاص داخل سورية وخارجها.


كان للمؤسسة العامة للإنتاج التلفزيوني والإذاعي، التي تمثل القطاع العام الدرامي السوري، قصب السبق في المقاربة الدرامية للأحداث على الأرض، والتأسيس للخطاب الدرامي السائد في تناولها، وذلك بإنتاج أول ثلاثة أعمال درامية عرضت عن الحدث السوري، وقد أسست بدورها لما سيأتي لاحقاً من إنتاج القطاع الخاص.

ومن حيث ينتهي القطاع العام الدرامي في هذه المسلسلات سيبدأ القطاع الخاص بدراماه التي تتناول الموضوع ذاته، من دون أن يكون له قصب سبق بتناول الموضوع، إلا بجرأة ما سيقدمه في الموسم الدرامي الرمضاني 2013 في مسلسل "الولادة من الخاصرة 3- منبر الموتى".

المتتبع لمضمون هذه المسلسلات سرعان ما يلاحظ أنّ معظمها تتشابه على نحو ما بالمضمون، لناحية ميلها لرصد انعكاس الأحداث الساخنة على علاقات السوريين الإنسانية وحياتهم الاجتماعية والاقتصادية. وقد حافظت تلك الأعمال بمجملها على شعرة معاوية في خطابها الدرامي حول ما حدث ويحدث اليوم في سورية، بعيداً عن تجاذبات مع أو ضد، ولو بشكل ظاهري.

وعلى الرغم من أنّ مسلسلي "فوق السقف" و"الولادة من الخاصرة" حققا قصب السبق لناحية التقدم خطوة عن معظم تلك المسلسلات لناحية مقاربة الحدث السياسي، إن صحّ التعبير، ومناقشته، على الرغم من تجاوز مسلسل "الولادة من الخاصرة 3- منبر الموتى" حدود مناقشة الحدث ذاته نحو محاولة إيجاد معادل توثيقي للأحداث على الأرض، بإعادة إنتاج الصورة الإخبارية درامياً، وهي الصورة الذي سيعود مسلسل "حلاوة الروح" لإنتاجها درامياً أيضاً، مع إضافة تفصيل جديد على المشهد الدرامي يتعلق بالجماعات الإسلامية المسلحة، وعلى نحو ما سيفعل الأمر ذاته مسلسل "الحقائب- ضبوا الشناتي"، إلاّ أنّ أياً من تلك المسلسلات لم يقطع شعرة معاوية مع المؤيدين للنظام أو معارضيه.




"بلغت حصة المسلسلات التي تناولت الحدث الساخن في سورية، ما يعادل خُمس ما أنتجته الدراما السورية خلال السنوات الأربع الأخيرة (ومن بينها ما أنتج في الموسم الدرامي 2015 حتى الآن). تم تصوير هذه الأعمال بين سورية ولبنان، فصوّرت حكايات 15 عملاً منها بالكامل في سورية، وتم "سورنة" لبنان في عملين جرت بالكامل أو جزئياً في سورية. فيما تم تتبع مآلات السوريين ونزوحهم إلى الخارج في ثلاثة أعمال، بالإضافة إلى ما ستكشف عنه تفاصيل "أماكن ووجوه" ربما بسورنة تركيا أم تتبع مآلات السوريين فيها."

عملياً، يعد خيار المسلسلات المنتجة حتى الآن، من ناحية المضمون، هو الأقرب للمنطق، إذا ما قورن الأمر بمتطلبات اللعبة الفنية، واشتراطاتها عند مقاربة الحدث الواقعي بضرورة انتهائه ووضوح أبعاده، وبالتالي يبدو أنّ مقاربة الجانب الاقتصادي والاجتماعي والإنساني لما حدث ويحدث اليوم في سورية، هو الخيار الأسلم لدراما لا تدير ظهرها لما يحدث حولها من أحداث، ولا تخالف اشتراطات اللعبة الفنية.

الخيار السابق، سيكون الخيار الآمن أيضاً إذا ما قيس بردود فعل المشاهدة واصطفافات أصحابها في الصراع، والقراءات النقدية للأعمال التي لم تنجُ هي الأخرى من الخلفيات السياسية لمواقف أصحابها، وقد شكّلت بمجملها ما يشبه حالة "هلع" عند صانعي هذه الدراما، عبّرت عن نفسها في تصريحاتهم التي غالباً ما كانت تنتهي عند المعنى ذاته دائماً: "نقدم عملاً يتناول ما يحدث بعيداً عن منطق (مع..) أو (ضد..)".

النتيجة أنّ كل الأعمال التي تناولت الأحداث السورية منذ 15 مارس/آذار 2011 وحتى الآن، لم ترض أحداً من طرفي النزاع على نحو كامل، وإن بدت مريحة لحمائم الطرفين، ولفئة ثالثة يصر البعض على تسميتها بـ "الحيادية" أو "الوسطية" أو "الرمادية"...إلخ. وتبقى فضيلة الخطاب الذي اختارته بطبيعة الحال المسلسلات التي صورت خارج سورية أنّها استطاعت أن تجمع فنانين معارضين ومؤيدين تحت سقف عمل واحد.





واحد وعشرون مسلسلاً في أربع سنوات، بلغ عدد المسلسلات التي تناولت الحدث السوري وتداعياته على حياة السوريين الاجتماعية والاقتصادية والإنسانية، منذ انطلاق المظاهرات الشعبية السورية في 15 مارس/آذار 2011 وحتى الآن، 21 مسلسلاً، عرض منها حتى الآن 15 مسلسلاً. تقاسم إنتاج هذه المسلسلات كل من القطاع العام الدرامي، ممثلاً بالمؤسسة العامة للإنتاج الإذاعي والتلفزيوني، وشركات إنتاج خاصة عملت في سورية، إضافة إلى شركات إنتاج سورية عملت في لبنان، بالإضافة إلى شركة إنتاج لبنانية "مون أند ستارز.

بالعموم، بدت معظم تلك الأعمال، على نحو ما، مرضية للجمهور المؤيد أكثر من الجمهور المعارض، ولا سيما أنّ 11 مسلسلاً من أصل 15 مسلسلاً عرضت حتى الآن، تم تصويرها في سورية، وبالتالي هي مضت بحكاياتها على إيقاع الجرأة والمقاربات الحكائية التي حددها السقف الرقابي الحكومي في سورية، مع الإشارة إلى أنّنا بدأنا في الموسم الدرامي 2014 نشهد تراجعاً نسبياً في إنتاج هذه النوعية من المسلسلات من قبل القطاع العام لصالح القطاع الخاص داخل سورية وتالياً خارجها، وصولاً إلى حالة تساو بعدد المسلسلات المنتجة (حتى الآن) بين القطاعات الثلاثة لصالح الموسم الدرامي 2015.

على الجهة المقابلة، بدا الجمهور المعارض للنظام ممتعضاً من أنّ أحداً لم يؤرخ لثورته كما يجب، باستثناء ما قدمه هواة وناشطون من أعمال بثت بشكل أساسي على يوتيوب وفيسبوك من بينها ما أنجزه الإخوان ملص، وما أنجزه ناشطون في "بقعة ضوء" حمصية، ومسلسل (رئيس ونساء) الذي كتبه وأخرجه السيناريست فؤاد حميرة، وغيرها. إلاّ أنّ تلك الأعمال لم تكن معدة للعرض التلفزيوني، ولم تنطبق عليها كافة الشروط الاحترافية لصناعة المسلسل التلفزيوني، وبالتالي هي لم تدخل منافسة مع ما عرض على التلفزيون من مسلسلات تناولت الحدث ذاته، وبالتالي لم تملأ فراغاً يشعر به معارضو النظام يعبر عن ثورتهم.





تفاوتت الحصص الإنتاجية للمسلسلات التي تناولت الأحداث في سورية بين القطاع الدرامي الحكومي والخاص، وصولاً إلى تساوي القطاعين بعدد هذه المسلسلات، بعد مرور أربع سنوات من انطلاق المظاهرات الشعبية، والتفاوت ثم التعادل الرقمي وربما تراجع القطاع العام عن امتلاكه الحصة الأكبر من الإنتاج، هو نتيجة نظرية؛ فالقطاع الخاص في سورية وخارجها، لم يتصدر إنتاج هذا الشكل الدرامي قبل 2013، بالمقارنة مع إنتاجه في 2012.

خلال الموسم الدرامي المقبل ينتظر أن يمتلأ هذا الفراغ، ولو بشكل نسبي، حيث سنشهد أول إنتاج من شأنه، ربما، تغيير كثير من تفاصيل المشهد المعتاد للمسلسلات التي تناولت الحدث السوري الساخن، عبر مسلسل شيخ المخرجين السوريين هيثم حقي" وجوه وأماكن" الذي كتبه مع خالد خليفة وغسان زكريا. وهو عمل يتألف من ثلاث حكايات قال عنها المخرج حقي على صفحته عبر فيسبوك إنها "تصف حالنا وحال ثورتنا وما آلت إليه، والعودة بها إلى أصلها كثورة من أجل الحرية والعدالة والمواطنة المتساوية ...". وهي التفاصيل التي لم نعتدها في أي من الأعمال السابقة، أقله لجهة توصيفها على هذا النحو، الأمر الذي يعدنا بخطاب درامي جديد، لا بد أن ننتظر العرض لنحكم على قدرته تقديم شكل مغاير عن السائد، ومعرفة مدى قدرته على إجابة عن سؤال نورا لراجي المعلق درامياً حتى الآن: "أنت نظام أم معارضة.."؟
المساهمون